الحمد لله الذي خلق الشهور والأعوام، والساعات والأيام، وفاوت بينها في الفضل والإكرام، {وربك يخلق ما يشاء ويختار} وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، أما بعد
فيا عبـاد الله أوصيكم ونفسي المقصرة بتقوى الله وطاعته.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة البقرة 2/183].
أيام قلائل ويحل علينا شهر رمضان ضيفا كريما، بعد عام مضى من الأعمال والأقوال، التي نرجو الله تعالى أن يكتب لنا أجر خيرها، ويكفر عنا سيئها، فنقبل على شهرنا بصفحات بيض نقية.
نعم انطوى عام، والناس فريقان: فريق قضى نحبه وكان يتشوف إلى لقائه، فبات مرتهنا بعمله، حسابه على ربه، وفريق لا يزال ينتظر فأمهله الله تعالى؛ ليكرمه بطاعته، فطوبى لمن صدقت نيته، وحسن عمله، وضاعف همته.
شهر النفحات والرحمات الربانية اقترب، فما أحوجنا إليها في زمن ضعف فيه الإيمان، وتزعزعت في كثير من القيم والأخلاق، وقست فيه القلوب، وكثرت فيه الهواجس، وضعف فيه اليقين بما عند الله وما أعده لعباده.. فما أحوجنا لهذه النفحات الربانية.
عنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «افعلوا الخير دهركم، وتعرضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده، وسلوا الله أن يستر عوراتكم وأن يؤمن روعاتكم» حديث حسن (الصَّحِيحَة للألباني: 1890)، والنفحة: هي الدفعة من العطية. {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [سورة البقرة 2/185].
عبـــــــــاد الله: إن بلوغ رمضان لنعمة كبرى، ومنة عظمى، يقدرها حق قدرها، الصالحون المشمرون، فواجب على كل مسلم ومسلمة منَّ الله عليه ببلوغ شهر رمضان، أن يغتنم الفرصة، ويقطف الثمرة، فإنها إن فاتت فذلك الحرمان الكبير. فقد كان صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه بقدوم رمضان تهيئةً لنفوسهم وشحذًا لهممهم، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال: لما حضر رمضان قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «قد جاءكم رمضان، شهر مبارك، افترض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغـلق فيه أبواب الجحـيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرِم خيرها فقد حُرِم» [ رواه أحمد (2/230) وحسّنه المنذري في الترغيب (2/99)، وقال الألباني في صحيح الترغيب (999): “صحيح لغيره”.]..
فهذا رمضان مقبل علينا فأقبلوا عليه، وخذوا منه الصحة لأجسامكم، والسمو لأرواحكم، والعظمة لنفوسكم، والقوة لأجسادكم، والبذل والفضل، والكرم والعفو والتسامح والصدق لتسموا أخلاقكم، فرمضان فرصة لتربية النفس في هذه الجوانب لتستقيم طوال العام، ومن لم يدرك هذه الحقائق الربانية فقد يخسر وأي خسارة أعظم من السقوط من عين الله ورعايته ورحمته؛ قال عليه الصلاة والسلام: «من لم يدَع قولَ الزورِ والعملَ به والجهلَ فليس لله حاجةٌ أن يدَع طعامه وشرابَه» [البخاري/6057]، وقال عليه الصلاة والسلام: «رُبَّ صائمٍ حظُّه من صيامِه الجوع والعطَش، ورُبّ قائمٍ حظّه من قيامه السّهر» [صحيح الترغيب والترهيب (1083، 1084)]..
ورمضان فرصة للتوبة النصوح والندم على ما فات من التقصير، والعزم على عدم العودة للذنوب والمعاصي والآثام، فالتوبة إليه والتضرع بين يديه من أهم الأعمال في شهر رمضان.. فبعد أن ذكر سبحانه وتعالى آيات الصيام قال معقبًا: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ )[البقرة:186]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «من صَام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدّم من ذنبه» (مسلم /760).
ورمضان خطوة نحو التغيير لمن هجر قراءة القرآن الكريم وتدبر أحكام والعمل بما فيه فيحدد لنفسه وردًا معينًا يحافظ عليه في كل يوم فيربي نفسه ويزكي أخلاقه، ويعرف مكانه من الله؛ “مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة . ريحها طيب وطعمها طيب . ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة . لا ريح لها وطعمها حلو . ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة . ريحها طيب وطعمها مر . ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة . ليس لها ريح وطعمها مر” . وفي رواية : ( بدل المنافق ) الفاجر .(مسلم: 797).
عبـــــــــاد الله: فليكن رمضان هذا العام مختلفًا عن كل عام؛ فنؤدي فيه الصيام بشروطه وأحكامه وآدابه، ونعزم فيه على التوبة من الذنوب والمعاصي، ونرد فيه الحقوق والمظالم إلى أهلها ونستغل أوقاته بالصلاة والقيام وصلاة التراويح والذكر والدعاء وقراءة القرآن.
ولتقم فيه بإصلاح ما فسد من العلاقات فيما بيننا؛ بين الأخ وأخيه، والجار وجاره، ولنصل أرحامنا، ونؤلف ذات بيننا، بل علينا أن نجعل من رمضان نقطة لتزكية نفوسنا وتهذيبها بالأخلاق، والقيام بواجباتنا ومسئولياتنا على أكمل وجه، ولنتراحم فيما بيننا؛ فيعطف الكبير على الصغير والغني على الفقير ويرحم القوي الضعيف.. فلعلنا نفوز بنظر الله تعالى إلينا سبحانه وتعالى، ونحظى برحمته وعفوه؛ فيرفع عنا كل شر ومكروه وبلاء. وقد حذّر سبحانه من هذه الغفلة فقال: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والبيان، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب .. إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الأخرى
الحمد لله كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا أما بعد
فاتقوا الله عباد الله ، ولنستعد بنية خالصة لوجه الحي القيوم، ولنستبشر ولنفرح بمواسم العبادات والطاعات؛ لما فيها من الفضائل والمنح والجوائز، قال صلى الله عليه وسلم: “من خُتم له بصيام يوم دخل الجنة”… (صححه الألباني في صحيح الجامع رقم 6224).
قال المناوي:” من ختم عمره بصيام يوم بأن مات وهو صائم، أو بعد فطره من صومه، دخل الجنة مع السابقين الأولين أو من غير سبق عذاب”… ( فيض القدير 6/123)، وروى أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:” يا حذيفة من خُتم له بصيام يوم يريد به وجه الله عز وجل أدخله الله الجنة” (الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 1/412).
عبـاد الله: وإن من رحمة الله وفضله علينا في شهر رمضان المبارك أن المسلم يفرح بقدومه ويستبشر بحلوله؛ لأن فيه يعلن المسلم العبودية الخالص لله، وفيه من العطايا والكرامات والرحمات ما يسر الخاطر ويبهج القلوب، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صُفّدت الشياطين ومردة الجن، وغُلقت أبواب النار فلم يُفتح منها باب، وفُتحت أبواب الجنة فلم يُغلق منها باب، وينادي مناد كل ليلة: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشرّ أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة» (صحيح الجامع 759).
جعل الله فيه للصائم فرحتين بهما تسعد حياته وتتحقق عبوديته لربه، وينال بهما شرف اللقاء بخالقه سبحانه وتعالى ومجاورة رسوله صلى الله عليه وسلم (فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) (القمر:55)، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «قال الله: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به.. الصيام جُنّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم. والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه» (رواه البخاري).
ولِمَ لا يفرح وقد منّ الله عليه بالهداية وبلغه رمضان، ووفقه للصيام، وأتم الله عليه نعمته فمنحه الرحمة، وتفضل عليه بالمغفرة، ووعده بالعتق من النار؟! لم لا يفرح الصائم وقد أكرمه الله بأن حباه لسانًا يلهج بذكره، وقلبا يعمره بحبه، وأمره بالتكبير شكرًا وحمدًا على هديه، وجعله دليلاً على شكره: (ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) (البقرة: 185) ولِمَ لا يفرح المؤمن عند فطره وهو يتناول قليلا من الرطب، أو حبات من التمرات، أو كوبًا من الماء البارد، بعد يوم شاق امتنع فيه عن لذيذ الطعام والشراب.. غايته رضا ربه، فيتذكر نعم الله عليه؛ فيأكل وهو يرفع يديه داعيًا مولاه العلي القدير أن يقبل منه صومه وطاعته «ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله» (إسناده حسن).
يفرح المؤمن عند فطره لأنه حقق الغاية من صيامه وهي التقوى فامتنع عن الطعام والشراب وحفظ سمعه وبصره ولسانه عن الحرام دون أن تكون عليه رقابة من البشر؛ ذلك لأنه علم أن له ربًّا سميعًا بصيرًا يحكم في ملكه ويتصرف في خلقه يأمر وينهى، ويقضي لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، شرع العبادات ليبتلي عباده وهو غني عنهم؛
عبــــــــاد الله: إنه لن تُحفظ الأمانات، وتُؤدى الواجبات، وتُصان الحقوق، وتُحفظ الدماء والأعراض والأموال، وتبنى الأمم وتزدهر الحضارات إلا بالتقوى، وما وصلت إليه أمتنا سابقا وما بلغت من التطور والحضارة لم يكن إلا ثمرة العمل بإخلاص ومراقبة الله في السر والعلن وهي التقوى، وإن خير زينة يتزين بها العبد لا تكون بملابسه الجميلة وذوقياته الرفيعة وكلامه الدقيق المنمق الواضح البين ولكنها التقوى خير زينة وخير لباس، قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (لأعراف:26).
إن رمضان فرصة لتعمير القلوب بالتقوى والعمل الصالح، والمحروم من حُرم فيه الخير ولم يتزود منه ولم يعمل فيه أعمالاً تقرّبه من ربه وتسعده في دنياه وآخرته…
ويفرح الصائم عند فطره؛ لأنه يقدم من ماله ومن طعامه ما يطعم به الأكباد الجائعة، فيرى فضل الله عليه، ويرى أيضًا الغني يرحم الفقير ويعطيه من مال الله الذي أعطاه، وبذلك تعم الفرحة قلوب الفقراء والمحتاجين، وتسود الألفة والرحمة المجتمع، ويشعر كل أخ بإخوانه، وتنعدم الأنانية والبخل والشح من النفوس.
عبـــــاد الله: وأما الفرحة الثانية التي يفرحها الصائم فهي عند لقاء ربه يوم القيامة يوم توزع الأجور يوم ينادى للصائمين من باب الريان، وهو من أعظم أبواب الجنة ولا يدخله إلا الصائمون، وإن الجنة لتتزين من العام إلى العام في رمضان ابتهاجًا بعباد الله الصالحين، فإذا دخلوا من باب الريان أُغلق فلم يدخل غيرهم أحد، فإذا دخلوا وجدوا نعيمًا لا ينفد وقرة عين لا تنقضي. وجدوا ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
عبــــــــاد الله: إن الواجب علينـــا أن نحمد الله على نعمة الصوم وكفى بها من نعمة… فاشكروه على فضله وأكثروا من عبادته وذكره، وأنفقوا من ماله ومما جعلكم مستخلفين فيه وطهروا قلوبكم من الأحقاد والضغائن، وأروا الله من أنفسكم في هذا الشهر خيرًا كثيرًا…
اللهم نسألك أن ترفع درجاتنا عندك، وأن تحببنا فيما يرضيك عنا، وألا تصرف عنا فضلك، يا سميع الدعاء. اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين وانصر إخواننا المجاهدين وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها ، اللهم آمنا في أوطاننا ، وأصلح ولاة أمورنا ، ووفقهم لإصلاح رعاياهم ، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم ، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين ، سلما لأوليائك حربا على أعدائك . اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم ، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وقد استفدت بشكل أساس من مقال بعنوان : اللهم بلغنا رمضان للكـاتب : حسان أحمد العماري شكر الله له، من المختار الإسلامي بشبكة النور، وعدلت وأضفت وحذفت وغيرت بعض الأدلة.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.