سبيل النجاة من المعاصي

سبيل النجاة من المعاصي

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين..

أما بعد .. فيا عباد الله أوصيكم ونفسي المقصرة بتقوى الله وطاعته؛ فقد أمركم بذلك الله جل وعلا فقال في محكم التنزيل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [سورة الأحزاب} [سورة الأحزاب: 70 – 71].

أخي المسلم: سؤال أبتدرك به في مطلع حديثي لك هذا اليوم: من الذي لا يقع في معصية الله؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم” رواه مسلم.

وقال أيضًا: “كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون” رواه الترمذي وابن ماجه وحسنه الألباني.

وأي نفس غير نفوس الأنبياء صلى الله عليهم وسلم ترقى لمنزلة لا تدركها كبوة، أو لا تغلبها شهوة؟

ولكن المؤمن مع ذلك يدرك خطورة المعصية وشناعتها، وأنها جرأة على مولاه، وإباق من سيده تعالى. وأنه ما من مصيبة في الدنيا إلا بذنب، وهو إن وَاقَعَ الذنبَ واقعه مواقعةَ ذليلٍ خائف مشفق، يتمنى ذلك اليوم الذي يفارقه فيه ويتخلص منه.

لقد كان سلف الأمة أهل الورع والخشية والزهد والعبادة، يتحدثون كثيرًا عن المعصية، ويخشون على أنفسهم من شؤمها، فكيف بنا معشرَ المخلطين المذنبين؟

كيف بشابٍ يعيش في هذا العصر، وقد أجلبت عليه الفتن والشهوات بخيلها ورَجِلِها، وصار يرى بعينيه ويسمع بأذنيه صباحَ مساءَ ما يدعوه للمعصية ويحثّه عليها، وما يؤخره عن الطاعة ويحجزه عنها. فلا تلمه بعد ذلك إذا تساءل ما السبيل للخلاص من المعصية وشؤمها؟

وما الطرق لمجانبة سبيل العاصين والسير في ركاب الطائعين المخبتين؟

أخي الكريم وازن بين هاتين الصورتين:

الأولى: شاب تتحكم المعصية في قلبه، وتسيطر على تفكيره ، فيخطط لها ويعمل جهده وفكره ليصل إليها، ثم يسعى لذلك بنفسه وماله أو جاهه، وربما سافر إليها. وبعد أن يقع فيها يبقى فرحًا بها ، يفاخر بها أصحابه، ويجاهر بها الناس، وإذا فاتته ندم وتحسر على فواتها، وإن حدثته نفسه بالتوبة فإنما هو خاطر سرعان ما يزول ويذيبه تطلع النفس للمعصية.

الصورة الأخرى: شاب يبغض المعصية ويتمنى للعصاة العافية، قد شغل وقته بطاعته مولاه، ولكن تأخذه في لحظة من اللحظات حالة ضعف بشرية فيواقع المعصية، وما إن يفارقها حتى يلتهب فؤاده ندمًا وحسرة فيتألم ويحزن، ويرفع يديه لمولاه تائبًا مستغفرًا، وما إن يسمع واعظًا حتى يرتجف فؤاده، وقد بدت معصيته بين عينيه، ويظل بعد ذلك يسأل:

ما المخرج؟ ما الحل؟ وبجانب كل طريق تؤديه إلى المعصية، وكذلك حاله وديدنه حتى يفارق المعصية، ثم هو بعد ذلك يحتقر فعلته، ويشعر أنها بعيده عن سير أهل الصلاح، ويتهم نفسه بصفات أهل الجهل والنفاق؛ فهو ممن قال الله فيهم: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [سورة آل عمران: 135].

فبالله عليك هل يستويان؟

وأيهما أقرب إلى رحمة الملك العلام؟

أخي المسلم:

إن المؤمن – كما يقول عبد الله بن مسعود: “يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذبابٍ مرَّ على أنفه فقال به هكذا”.

وهذا أنس رضي الله عنه يقول: “إنكم لتعملون أعمالاً هي أدقُّ في أعينكم من الشعر، إن كنَّا لنعدها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الموبقات” رواه البخاري.

ويعظم احتقار الذنب عند الأوزاعي فيقول: “كان يقال: من الكبائر أن يعمل الرجل الذنب يحتقره”، وإن احتقار الذنب لهو من أكبر أسباب انتشاره في زماننا هذا، فإنك إذا ناصحتَ أحدًا في ذنب صنعة بادرك بقوله: وماذا فعلتُ حتى تنكر عليَّ، والدينُ يسرٌ وليس بعسر، واللهُ غفَّار تواب، وهو يعلم أن ما فعله ذنب، ولكنه احتقار الذنب الذي جعله بعيدًا عن التوبة منه. وهذا يولِّد تكاثر الذنوب الصغيرة حتى تكون كالجبل على قلبه.

قال كعب: “إن العبد ليذنب الذنب الصغير ولا يندم عليه ولا يستغفر منه، فيعظم عند الله حتى يكون مثل الطود، ويعمل الذنب العظيم فيندم عليه ويستغفر منه، فيصغر عند الله عز وجل حتى يغفر له”.

خــــــلّ الذنــــــوب صغيرها         وكبيـرها ذاك التــــــقى

                                         واصنع كماشٍ فوق أرض        الشوك يحــذر ما يرى

  لا تــــحــــــقـرنَّ صــــغيــــــرة         إن الجبال مـن الحصى

فكم – يا أخي – من كلمة لا نلقي لها بالاً: سخرية بمسلم أو همزٍ له، أو وقوع في عرضه، أو كلمة غير صادقة، تتبعها نظرة عابرة، وتقصيرٍ في واجب لا نعبأ به، وهكذا حتى تتكاثر وتفحش ثم نسأل: لماذا قلوبنا قاسية؟

وإن مما يتبع احتقار الذنب المجاهرة به، فإن شبابًا قد ابتلوا بفضح أنفسهم في الدنيا قبل فضيحة الآخرة، فهم يجاهرون بذنوبهم التي يرتكبونها أمام الناس أو التي يرتكبونها في سريرتهم.

يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً، ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه” رواه البخاري ومسلم.

وانظر الفرق بين حال هذا وحال المؤمن الذي غلبته نفسه الأمارة بالسوء، دعاه هواه لمقارفة معصيته في خلوة من الناس، وحين اتعظ قلبُه نَدِمَ واستغفر، وستر نفسه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “يدنو أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه فيقول: عملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم، ويقول عملتَ كذا وكذا؟ فيقول نعم، فيقرِّرُه ثم يقول: إني سترتُ عليك في الدنيا، فانا أغفرها لك اليوم” رواه البخاري.

إن المؤمن الذي يخاف مولاه، ويعظّمه ويجلّه، وإن أوقعته نفسه في المعصية، وقارف ما قارف، فهو يمقت هذه المعصية، وما يذكِّره بها من قريب أو بعيد، فكيف يحدِّثُ الناس بها!!

أخي .. أخي الستر .. الستر..

فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له

توبوا إلى الله واستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .

الخطبة الأخرى:

الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا ..

أما بعد: عباد الله اتقوا الله، واعلموا بأن الله سبحانه وتعالى رحيم بعباده، وهو – عزَّ وجلَّ- عليمٌ بهم وبطباعهم؛ {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [سورة الملك: 14].

لقد علم الله أن الناس بشر مهما بلغوا من التقوى والصلاح والورع، فلا بد أن يقارفوا بعض ما حرّم عز وجل، ولهذا فتح لعباده باب التوبة ودعاهم إليها {..وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة النــور: 31].

ولك أن تفرح معي أخي المسلم بفرح الرب عز وجل بتوبتنا كما في الصحيحين: “للهُ أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح”، نعم إن الله تعالى بفرح بتوبتنا ولكننا نحن الذين نقصر ونبتعد، الله تعالى يريد أن يعاملنا بحلمه وبرحمته وعطائه، ولكننا نحن الذين نقع فيما يغضبه علينا.

حُكِيَ عن بعض العارفين أنه حصل له شرود وإباق من سيده، فرأى في بعض السكك بابًا قد فُتح، وخرج منه صبي يستغيث ويبكي، وأمه خلفه تطرده حتى خرج، فأغلقت الباب في وجهه ودخلت، فذهب الصبي غير بعيد ثم وقف مفكرًا فلم يجد له مأوى غير البيت الذي أخرج منه، ولا من يؤويه غير أمه، فرجع مكسور الفؤاد حزين القلب، فوجد الباب مغلقًا، فتوسد العتبة ونام. فخرجت أمه، فلما رأته على تلك الحال لم تملك أن رمت نفسها عليه والتزمته تقبله وتبكي، وتقول: يا ولدي أين تذهب عني؟ ومن يؤويك سواي؟ ألم أقل لك لا تخالفني، ولا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جُبلت عليه من الرحمة بك والشفقة عليك، وإرادتي الخير لك؟ ثم أخذته ودخلت.

فتأمل قول الأم: لا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جُبلتُ عليه من الرحمة والشفقة، وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم: “الله أرحم بعباده من الوالدة بولدها”.

وأين تقع رحمة الأم من رحمة الله التي وسعت كل شيء؟ فإذا أغضبه العبد بمعصيته فقد استدعى منه صرف تلك الرحمة عنه، فإذا تاب إليه فقد استدعى منه ما هو أهله وأولى به. واللهُ أهل التقوى وأهل المغفرة.

أخي إذا دهمتْكَ المعصية فبادر بالتوبة، ودع التسويف والتأجيل، فتأخير التوبة لا يجوز، وتب إلى الله من تأخير توبتك إلى هذه الساعة.

وتذلل إلى الله تعالى بمثل قولك: “أسألك بعزك وذلي إلا رحمتني، أسألك بقوتك وضعفي، وبغناك عني وفقري إليك، هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، عبيدك سواي كثير، وليس لي سيد سواك، ولا منجى منك إلا إليك، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، سؤال من خضعت لك رقبته، ورَغِم لك أنفه، وفاضت لك عيناه، وذلَّ لك قلبه.

 يا مــــــن ألــــــوذ بــــــه فيــــما أومـــــلـه         ومـــــن أعـــــــوذ به فيما أحــاذره

لا يجير الناس عظمًا أنت كاسره        ولا يهيضون عظمًا أنت جابره

فهذا وأمثالها من آثار التوبة المقبولة إن شاء الله، فمن لم يجد ذلك في قلبه فليتهم توبته وليرجع إلى تصحيحها، فمن أصعب التوبة الصحيحة بالحقيقة، وما أسهلها باللسان والدعوى، وما عالج الصادق شيئًا أشقّ عليه من التوبة الخالصة الصادقة ولا حول ولا قوة إلا بالله.

أخي إذا تكرر الذنب فكرّر التوبة بصدق وحرارة، وفارق دواعي المعصية من أصحاب السوء، وآلات اللهو المحرم، وبيئة الفساد، ودوام الاستغفار، وأتبع السيئة بالحسنة تمحها، وعليك بالكفارات؛ كالوضوء، والصلاة، والصيام، والحج والعمرة، ولا تفارق الأخيار، نعم لا تفارق الأخيار؛ فإنك إن فارقتهم ضعت في متاهات الفتن والذنوب.

ثم صلوا بعد ذلك وسلموا على رسول الإسلام، وداعية السلام، ومنقذ الأنام فقد أمركم بذاك الله جل وعلا فقال جل من قائل حكيمًا: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].

اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه، ومن التزم شرعه واتبع سنته إلى يوم الدين، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، واحم حوزة الدين اللهم أهلك الكفار والمنافقين، واجعل دائرة السوء عليهم يا رب العالمين.

اللهم آمنا في أوطاننا، واستعمل علينا خيارنا، اللهم أصلح أئمتنا وأمراءنا وقضاتنا وعلماءنا، واجعل اللهم جميع ولايات المسلمين فيمن يخافك ويتقيك يا رب العالمين.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



اترك تعليقاً