مقدمة :
الحمد لله الذي أنعم وتفضل على عباده بزينة الحياة الدنيا ؛ ليبلوهم أيهم أحسن عملا ، وأصلي وأسلم على أشرف رسول وأعظم مرب ، وأقرب محبوب إلى القلوب محمد بن عبد الله .. وعلى آله وصحبه .. أما بعد
فإني أشكرمركز الدعوة والإرشاد ومجلة أنس للفتيان على هذا التنظيم الرائع الدقيق لهذه المحاضرات ، وأسأل الله تعالى أن يتقبلها مني ومنهم ومنكم إنه سميع مجيب ..
ومرحبا بكم أنت أيها الآباء والأمهات ، وقد احتشدتم من أجل أولادكم ، وتركتم كثيرا من أعمالكم وأعبائكم ، وهذا دليل الحب الحقيقي لهم ولا شك ، وجئتم إلى لقاء يداعب مشاعركم الرائعة منذ عنوانه : فلعل بعضكم بدأ يتحدث مع نفسه أو مع شريك حياته ماذا وراء هذا السؤال ؟
هل تحب أولادك ؟
هل هناك من سيختلف في الإجابة عن هذا السؤال ؟
هل هناك من سيكره أولاده .. أبناءه أو بناته ؟
الواقع أن عاطفة الأبوة والأمومة هي أعلى عواطف البشر وأكثرها تأججا وبقاء ، عاطفة بلا شروط ، فنحن نحب أولادنا مهما حدث منهم ، ميزان الحب 100% ثابت لا يتغير ، وأكثر الآباء والأمهات قد أعطوا أولادهم الأمان من الغضب عليهم أمام الله تعالى إلى أن يلقوه عز وجل مهما كانت ردة أفعالهم .. هذا الحب إذن هو الفطرة التي فطر الناس عليها ، وما لا يتماشى معها فهو شذوذ ولا شك .
ولكني أريد أن أتفق معكم ـ منذ البداية ـ على أنني حينما أقول الآباء فإني أقصد الآباء والأمهات ، وحينما أقول الأولاد فإني أقصد البنين والبنات .
في أحد المستشفيات .. وفي الوقت المخصص للزيارة .. قبع أحد المسنين يلوك حزنه الشديد ، يدور بعينيه ، ويتلفت بفؤاده ، في حرقة وألم :
يرنو أثمة زائر ؟ ويغص بالز |
|
فرات لكن لم يزل يترقب |
جاء الطبيب إليه يسأل ما جرى |
|
يا عمُّ ما هذا الدم المتصبب ؟ |
ماذا يقول ؟ ومن يصدق ما يقو |
|
ل ؟ وكلهم لمقاله سيكذب ! |
لكن تنهد ثم أطرق صامتا |
|
جلدا عليه من الكآبة غيهب |
فسكت عنه الطبيب ، وراح يداويه بالمضمدات ، بينما هو راح يقلب نظره في أحد الآباء الذي يبدو شبابا وقد انعطف على ابنه الصغير الراقد على السرير الأبيض يقبله ويحن عليه ، وقد دارت في رأس العجوز صور مريرة ، ولكنه :
أغضى وتمتم سائلا : أتحبه ؟ |
|
تا الله إن زماننا متقلب |
فتعجب منه الأب الشاب ، وهو يمسح رأس ولده ، ماهذا السؤال ؟ أيسألني أتحب ولدك ؟ ولكنه من أجل الشيخ الكبير أجاب :
إني أحبُّ ابني ولكن … وانثنى |
|
يبكي ، وقال بغصة : إني أب |
وأشاح يمسح دمعة الحزن الدفيـ |
|
ـن ، وعاد يروي والفؤاد يعذب |
أبني إن ابني الذي أحببته |
|
أهوى علي ضحى يجر ويضرب |
وتعينه امرأة له حمالة الـ |
|
ـحطب التي تغريه بي وتؤلب |
ما زال يضربني وقلبي ما يزا |
|
ل يحبه ، قلب الأبوة أرحب |
أتراه ينسى ما وهبت له بلا |
|
ثمن ، وكان العمر مما يوهب ! |
أيحس بالألم الذي ينتابني ؟ |
|
إن مسه تعب ، وأني متعب ؟! |
وشممت حين بكى ضرام ضلوعه |
|
لما غدت مما به تتلهب .. |
تلك مشاعر الأبوين حين يشعرون بخيبة الأمل في أولادهم إذا كبروا وتركوهم حطبا لنيران الحسرة والأوجاع المتتابعة .. ولكن السؤال هو : لماذا يحظى بعض الآباء ببر أولادهم ، ويخسر آخرون ذلك الأمل النضير الذي كانوا ينتظرونه منذ أمد طويل ؟
إن كثيرا من الآباء يقولون : ( ما يعطيك من مالك وعيالك إلا الله ) ، ويقصدون بذلك أن الله هو الذي يهدي لك أولادك فيبروك ، كما أنه هو الذي ينفعك بأموالك فتصرفها في سعادتك ، وهو قول حسن صائب ، لولا أنك تشم منه رائحة التواكل المذموم ، فإذا كان الرزق بيد الله ، فإن ذلك لا يعني أبدا أن نتواكل ونترك طرق الأسباب ، عل السماء تمطر علينا ذهبا وفضة ، فلا بد من العمل والكدح ، ولا يعني ذلك استحالة ورود الرزق دون عمل فـ { إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } ولكننا لا نتكل على هذا الأمر وإلا فسدت الحياة . وكذلك الأمر بالنسبة للتربية ، فإن الذي قال : { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } [ سورة القصص 28/56 ] هو الذي قال : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [ سورة الشورى 42/52 ] ، فإن أولادك لن يبروك إلا حينما تحسن إليهم صغارا ، وتنشئهم على طاعة الله ، وترعاهم وتربيهم شبابا ، وهناك أبشر بالبر إن شاء الله ، ولكن ـ مع ذلك ـ فربما صلح الولد دون جهد منك ، فبرك يبتغي بذلك وجه الله تعالى ، ومدار الأمر على الصلاح ، وصدق عمر بن عبد العزيز الذي قال : (( الهداية من الله والأدب من الآباء )) . ومن هنا تبدأ رحلتنا مع أعذب المشاعر ، بين الآباء والأبناء ؛ علنا الليلة ننعشها !
في هذه المحاضرة :
1.متى رأيت أباك مبتسما ؟!
2.أولادنا بين القسوة والتدليل .
3. شكوى المحبين من الأحباب .
4. ماذا يربح أولادك وماذا يخسرون بنوع معاملتك ؟
5.كيف تصنع مجرما في بيتك ؟
6. لا تكن محبتك لهم جسرهم إلى الهاوية :
7. إياك أن تربي ولدا للنار !
8. هل تعرف معنى الحب .. حب أولادك ؟
9. حين يفتقد الحب .
10. الرسول r وحب الأطفال .
11. أساليب عملية لاستعادة عرش الحب في المنزل .
12. الخاتمة .
أولا : متى رأيت أباك مبتسما ؟
متى رأيت أباك ؟ متى رأيته يبتسم ؟ متى ضمك بين جنبيه وقبلك بين عينيك ؟ متى كانت آخر مرة أكلت معه أو جالسته فيها أوخصك بالحديث وحاورك كصديق ؟
أسئلة بات يمكنك أن تتجرأ وتسألها لبعض أبناء اليوم ، المسحوقين وراء ستر الأبواب الموصودة !!
نعم لقد جفت علاقات الحنان والمودة في بعض البيوت ، وبالتالي فقد الأولاد تأثير أهم محضن تربوي لهم على الإطلاق وهو الأسرة ؛ فآخر ما يمكن أن يشغل بال آبائهم هو تقويم سلوكهم ، ومجاهدة تربيتهم ، فيا ليت شعري متى يفيق هؤلاء من غفوتهم :
· إنهم يجهلون مستوى أولادهم في دراستهم !
· ويجهلون أصناف أصدقائهم ، ومن يهاتفون !
· ويجهلون أماكن قضاء وقت فراغهم !
· ويجهلون مصادر الأموال التي بين أيديهم ، وفيم يصرفونها !
· ولا يحفلون بتغير سلوكهم وبالتالي لا يبحثون عن مصادر هذا التغيير ؟
قد ربطوا أحاسيس أماناتهم بموجات المد الفضائي ، ولكنهم تجاهلوا ماذا قد تضخ إلى دمائهم وعقولهم وقلوبهم في غياب الرقابة الأسرية الحازمة !
وربما نعقت الموضات الشوهاء في ملابسهم ، وراحت خروق المخدرات تدق في جوانبها أجراس الخطر ، ثم يدعون بعد ذلك أنهم يحبون أولادهم !!
نعم إنني لا أستطيع أن أوجه اللوم إلى الوالدين فقط ، فالمسؤولية موزعة على كل المحيط الذي أدى إلى انحراف الشاب أو الشابة ، ولكن المسؤولية الأولى تقع عليهما فـ (( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته )) .
إننا في حاجة إلى أجيال مستقري النفسيات ، مستقيمي السلوك وفق منهج التربية الإسلامية المتوازنة ، يمتلئون بالطموح المتزن ، وينظرون إلى المستقبل بتفاؤل ، ويسيرون لتحقيق أمنياتهم وأمنيات أمتهم ووطنهم بخطوات ثابتة واثقة ، وهؤلا ءلا يمكن صناعتهم إلا في أجواء الحب الأسري .
ثانيا : أولادنا بين القسوة والتدليل :
لا تزال بيننا أسر عرفت أهمية التربية ، وحقيقة العلاقة بين الآباء والأولاد ، وأنها إنما تبنى على الحب الشفاف ، والاستمتاع بالتربية ، جعلت أهم مشروعاتها في الحياة تنشئة بنين وبنات صالحين وصالحات ، ناجحين وناجحات ، مبدعين ومبدعات ، فلم تقنع من الوقت بالفتات ، بل منحتهم أهم الأوقات ، وأروع اللحظات ، وبذلت أموالها في توفير كل ما ينمي ملكاتهم ويرفع قدراتهم ، فلا غرو ـ بعد ذلك ـ أن يكون نتاج تربيتهم قرة العيون ، وشامات البلاد ، وحراس العقيدة ، ومطامح المجد .
ولكن لا بد أن نعلم ـ أيضا ـ أن هناك أسرا اقتصر دور الأمِّ فيها ـ في الغالب الأعمِّ ـ على إعداد الطعام والشراب ، والاهتمام بتلقين الطفل الدروس كلمة كلمة كأنه ببغاء في حضن طفل مشدوه ، بينما انحصر دور الأب في الركض خلف لقمة العيش ليل نهار؛ لتوفير الاحتياجات الماديَّة المتزايدة ( الضروريَّة والكماليَّة ) للأسرة ، واختفت من قاموس حياة هؤلاء رقة الأجداد مع الأحفاد ، وحكايات الجدَّات في صدر الليل الطري ، وفطرتهم النقية ، التي كانت توجِّههم للتعامل الأمثل مع فلذات الأكباد .
نعم إن كثيرا من الآباء والأمهات يعيشون مع أولادهم صغارا ومراهقين معركة يومية ، لا تبرح تشتعل في كل لحظة من ليل أو نهار ، ومن خلال ما يردني من استشارات أو ما أقرؤه في الصحف ، وجدت أن المشكلة قبل أن يكون سببها الأولاد ، فإنها تضرمت بسبب معاملة الآباء لهم ، فإن كثيرا من الأولاد اليوم يقعون بين معاملتين خاطئتين ؛ هما التدليل المفرط والعنف في التأديب .
إنني لا أنادي بالدلال الذي يمسخ رجولة الذكر ، ويفسد شخصية الأنثى ، ولكني أنادي بالحب الذي يعني إشعار الأولاد عموما بالمودة الخالصة من شوائب ترقب المنفعة ، والخصوصية في المعاملة .
ولا أنادي بالقسوة التي تصل إلى حد تبغيض الحياة في عيني الأولاد حتى سمعنا أطفالا يتمنون الموت ، ويكرهون رؤية آبائهم ، ويتمنون أن يسافروا فلا يعودوا ، ولكن بالحزم اللطيف الذي يمكنك أن تسميه قسوة مقننة تعلم الأولاد وتربيهم على أن الحياة لا تدوم نعمها ، ولا يوثق بابتسامتها . على حد تعبير الشاعر :
فقسا ليزدجروا ومن يك حازما |
|
فليقس أحيانا على من يرحم |
والفاروق عمر t يقول : اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم . ويقول أحد السلف لطلابه : لا تهربوا من خشونة كلامي فإنه لم يربني إلا الخشن في دين الله .
إن الوسطية هي ديننا وحسب ، فبين الدلال المفرط والظلم المرهق روضة تأديبية ريحها طيب وطعمها طيب ، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ، تلك هي التي أتمنى أن أعيشها مع أولادي ، وأتمنى لك أن تعيشها مع أولادك .
يقول أحد المختصين العالميين في تربية الأولاد وهو الدكتور سبوك : (( إن الذي يسبب تآكل الحب بين الآباء والأبناء هو ذلك الإفراط في التسيب وخوف الآباء الشديد على حرية أبنائهم ، وخوف الآباء الشديد من أبنائهم من ممارسة قيادة الأبناء ، وتكون النتيجة في الغالب حالة من الإحباط المشترك ، سببها أن الابن أخذ مساحة من الحرية لا يعرف كيف يتصرف فيها ، ولم يتدرب على التعامل معها ، وأن الأب والأم أحس كل منهما أنه لا يستطيع أن يسيطر على الابن . إن علينا نحن الآباء والأمهات أن نقدم بشجاعة وهدوء على ممارسة مهماتنا الطبيعية وهي : أن يكون الواحد منا صارما دون قسوة ، وأن يكون حازما دون جفاف ، وأن يكون حنونا دون انهزام أمام الطفل ، وإذا سألنا أين نتعلم كل ذلك ، فإننا نقول : نحن نتعلم ذلك بالتدريب ، والانتباه ، والقدرة واليقظة على تعديل السلوك الخاطيء ، إلى سلوك مناسب ))([1]).
قد يطلب منك طفلك أيتها الأم نوعا من الدلال ، فتخشين أن تفسديه بذلك ، ولكن الحقيقة أن كل ولد يحتاج منك إلى مقدار كبير من الحنان ، كما يحتاج للهواء والماء والطعام ، إنه في أشد الحاجة إلى حبك ، إلى احتضانك مهما كبر ، فتلبية حاجاته النفسية لا يعني تدليله الدلال المخرب أبدا .
أطعمي طفلك بيدك ، ولبسيه الملابس بيدك ، وامسحي صدره خده ورأسه بيدك، إن ذلك يمثل طريقة غير مباشرة للتعبير عن حبك له ، حتى ولو كان في وسط يوم مليء بالمشاحنات كما يقول الباحثون النفسيون .
عند استيقاظه من النوم : خذي صغيرك في حِضنك واحكي له ما ستقومان بعمله في هذا اليوم الجديد . وعند تناوله الطعام : لا تنسي مداعبته عن طريق التمثيل البسيط والحكاية الحلوة . وعند النوم : تحدّثا سويًا عما حدث في ذلك اليوم وعن الأحداث المنتظرة في اليوم التالي بإذن الله ، غطيه بيديك ، واطبعي قبلة حنونة على جبينه وودعيه الله ، ولقنيه دعاء النوم حتى يحفظه . وبعد أن يأخذ طفلك حمامه الدافئ : جففي جسمه بلطف وقولي له : كم أنت جميل . عندما يستعد للخروج معك وعند ارتداء ملابسه : حدثيه عن المكان المتوجه إليه وعما سيتم فعله هناك .. وإذا كنت تخرجين بشكل يومي للعمل فلا تحرصي على إيقاظ طفلك ما قبل المدرسة مادمت قد عزمت على تركه في المنزل مع من يرعاه ، ولكن إذا استيقظ باكرا فلا تفجعيه فيك بالخروج المفاجيء الخشن ، بأن تدفعيه ، أو تصرخي في وجهه بحجة أنك في عجلة من أمرك ، بل أعطيه ـ من الحنان ـ ما يكفيه فترة غيابك عنه ، وذلك بمنحه حِضناً دافئاً ، وقبلة حارة ، مع توفير كل سبل الأمن والراحة له من أكل شهي ، ولعب يرغب فيها .. ، وإني والله لأعزيه في فقدك كل هذه الساعات ، فقدا لا يعوض أبدا ، ولا أريد أن أفتح ملف الخادمات والمربيات ، المليء بالجرائم والفضائح خلال غياب الأم عن المنزل ، فذلك مما سارت به الركبان ، وله حديث خاص إن شاء الله في المستقبل . والله المستعان .
ثالثا : شكوى المحبين من أحبابهم :
عدد كبير من الآباء والأمهات يشتكون من فلذات أكبادهم شكوى مريرة ، تتمعر فيها وجوه الرجال ، وتذرف لها عيون النساء ، والحيرة واليأس والتسليم المر والرعب من المستقبل نتائج مخيفة أصبحت تسيطر على نفوس هؤلاء الأولياء الأشقياء بثمرات نفوسهم .
· لم أعد أشعر بالسيطرة على أولادي .
· أصبح القرار النهائي في يد ابنتي وهي لا تزال في سن المراهقة .
· ابني يرد علي بكل تبجح ، ويتهمني بعدم المعرفة بالواقع المتطور .
· أولادي لا يريدون المذاكرة ، ولا يصغون لأية نصيحة مني أو من أمهم .
· أصبح ابني في بيتي كالغريب المقيم في شقة مفروشة .
· أتلفت في حاجاتي فلا أجد من يعينني من أبنائي .. فأتحسر على حالي .
· لقد عجزت عن إقناع ابني بالصلاة في المسجد .
· الرفقة السيئة تلتف على قلب ولدي كالحية ، وليس في يدي أي حل مجد.
· الأولاد يعيشون أكثر يومهم مع الإنترنت بكل تفاهاته ، وليس بثقافاته ، أو مع مهاترات الفضائيات .. والفاتورة تعدت حاجز الألف .
· أحس بأنني بعيد عن كل واحد منهم ، وأحس ببعد كل واحد منهم عني.
كل أب أو أم يرفع دعوى التمرد هذه ، ويعدد صوره الممضة ، ويكثر من التشكي،دون محاولة للبحث عن الأسباب الحقيقية لهذه الظاهرة المدمرة لبنية الأسرة.
ولا شك أن من أبرز أسباب نشوء الشعور العدواني في نفس الإنسان حياته في جو صاخب ، مقطع العلاقات ، لا يشعر فيه بالأمن النفسي ، والراحة القلبية .
ولذلك فإني أرى أن جذور القضية تعود إلى التربية الأولى ، حيث يوجد خلل في التعامل مع الأولاد في طفولتهم ، تتسع فجوته كلما تقدم الزمن بهم جميعا .
فالدلال الزائد ، أو الغلظة والتسلط ، أو الانشغال التام من قبل أحد الطرفين عن الآخر ؛ كانشغال الوالدين بالعمل نهارا ، وبالزيارات والتسوق ليلا ، أو إشغال الأولاد بالألعاب ومشاهدة التلفاز بشكل دائم ، كل ذلك يؤدي إلى ضعف العلاقات بين الطرفين ، والتشرد النفسي داخل المنزل الواحد .
إلى جانب سبب مهم ، وهو حرص الآباء مع الأبناء ، والأمهات مع البنات على فصلهم منذ الصغر عن جانب الخدمة العامة والخدمة المنزلية ، طلبا لراحتهم ، وتفريغا لهم لدراستهم ، مما يؤدي ذلك إلى ضعف خبراتهم في هذه الجوانب من جهة، وضعف ولائهم لأسرتهم ، وتعودهم على عدم خدمة والديهم وتقدير جهودهم من جهة أخرى .
ولعل أسوأ الأسباب سماح الوالدين أو أحدهما لأحد الأولاد بالتطاول عليهما باليد أو اللسان منذ الطفولة ، إذ يتعود الطفل على ذلك ، ولا يجد فيه غضاضة .
رابعا : ماذا يربح أولادك وماذا يخسرون بنوع معاملتك ؟
ماذا يربح أولادك حين تختار الحب الفياض طريقا لتربيتهم ، بدلا من العنف والضرب والإهانات ؟
سيربحون كثيرا جدا من السمات :
أولها : أنت .. نعم سيربحونك أنت .. لأنك حينما تعاملهم بالإحسان ، وتفيض عليهم بالعواطف الجياشة التي تتحرك في داخلك ، فإنهم سيحسون بحبك المخبوء في صدرك سيحبونك أكثر ، ويقتربون منك أكثر ، ويجدون أباهم بعد أن تاه من أيديهم سنين بين عمله وأصدقائه .. بينما سوف تكون خسارتهم فيك بالغة حين يفقدون حنانك، ولا يذكرون منك سوى الضرب المؤلم ، والكلمات الموجعة للقلب .
ثانيها : تنمية مهاراتهم وقدراتهم ؛ فإن كثيرا من الطاقات والعبقريات والمواهب أطفئت بأيدي الآباء المتعسفين أو المعلمين المتشددين ، ظنا منهم أن التربية لا تكون إلا بالقهر والإذلال ، والواقع أن كلمات مثل : ( عيب ، ولا تتحرك ، وإياك أن تقوم من مكانك ، واجلس مؤدبا حتى أقسمح لك بالقيام ، ولا تدخل على الرجال ، ولا لكل محاولة اكتشاف في المنزل أو في الحديقة أو في المدرسة ، وكثيرا جدا من وسائل العقاب بل العذاب هي التي حولت كثيرا من المبدعين الصغار إلى أجهزة تسجيل باردة ، ليس لها إلا أن تحفظ ما لقنت وتردد ما سمعته ) .
وثالثها : إن التربية بالحب تجعلهم أكثر قدرة على الانسجام مع الآخرين ، والتعاون مع المماثلين لهم في شؤون الخير ، وبناء أنفسهم ومستقبلهم . بينما استخدام أساليب العنف مع الأطفال لضبط سلوكهم من شأنه أن يؤدي إلى تنمية المشاعر العدوانية لديهم.
ورابعها : إن التربية بالحب تنشيء أطفالا أكثر سعادة وانفتاحا على العالم الخارجي ، بينما من يربى بالعسف والظلم ينشأ منعزلا قابعا في ثوب الإحساسات السلبية ، يحتقر نفسه ، ويحقد على مجتمعه .
وخامسها : أن تربية أولادك بالحب ، يقوي عاطفة الحب بينك وبين زوجتك ، ولك أن تقارن بين من يسيطر التوتر على علاقته مع أولاده ، كيف تنتقل شرره إلى العلاقة مع زوجته ، بينما من يفيض بالحب على أولاده كيف يشعر بالسعادة مع زوجته.
وسادسها : أن التربية بالحب تعمر قلوبهم الغضة بالثقة بك وبأنفسهم وبالحياة من حولهم ، وتشيع في نفوسهم الصفاء ، وتغمر أخيلتهم التفاؤل ، وتلك من أسس النجاح في الحياة .
خامسا : كيف تصنع مجرما في بيتك ؟
لقد ذهلت حقا حينما قرأت هذه نتيجة إحدى الدراسات الجادة :
من الميلاد حتى سبع سنوات يكون قد تم 90% من برمجة الإنسان ، وأقصد بالبرمجة أي اكتساب اللغة والسلوك والأخلاق والدين . ومن 7 سنوات حتى 18 سنة تكتمل البرمجة بمقدار 100% .
إن معنى ذلك أن الطفل بمثابة الرادار الذي يلتقط كل ما يدور حوله فإن كانت الأم صادقة أمينة خلوقة ،كريمة ، شجاعة ، عفيفة ، نشأ ابنها على هذه الأخلاق الحميدة والعكس نجده إذا كانت الأم تتسم بسمات عكس السمات السابقة ، كأن تكون كاذبة جبانة غير خلوقة ينشأ الطفل على الكذب والخيانة والتحلل والجبن ، وكذلك الأب ، وإن كان الطفل يتأثر بحوالي خمسة وثمانين في المئة من سلوك أمه . لأن الطفل مهما كان استعداده طيبا ومهما كانت فطرته نقية طاهرة سليمة صافية فإنه ما لم يوجه التوجه السليم وما لم يجد القدوة والنموذج الموجه الصالح فإنه بلا شك سينحرف إلى الجانب السلبي من جانب شخصيته وصدق رسول الهدى عليه الصلاة والسلام الذي لا ينطق عن الهوى عندما قال :” كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ” رواه مسلم .
وينشأ ناشيء الفتيان فينا |
|
على ما كان عوده أبوه |
وما دان الفتى بحجى ولكن |
|
يعوده التدين أقربوه |
إذا حُرم صغيرك من التعبير عن الحنان والحب في هذه المرحلة من النمو قد يتعرض لنوع من عدم الاطمئنان ويصبح أكثر عدوانية مع الآخرين.
حول الدور الخطير للأسرة في بذر بذور العدوان والعنف لدى الصغار أشارت د. إجلال حلمي – أستاذ الاجتماع بجامعة عين شمس – إلى أن ثمة عوامل عديدة تسهم في بذور وتنمية السلوك العنيف أو العدواني لدى الصغار منها :
– الاستعداد الشخصي لدى الطفل والذي تبدو ملامحه في أسلوب التعامل مع اللعب والأقران ، والطفل الذي يميل إلى العدوانية بطبعه نادر جدا، ربما يصل إلى 7 أو أقل في المليون.
– الأسرة ذاتها التي قد تكرس هذه الميول العدوانية نتيجة انتهاج سياسة العقاب البدني لأتفه الأسباب ، والتي قد تبالغ في هذا العقاب بحيث لا يتناسب مع حجم الخطأ ، ولا تترك مساحة للتسامح أو العفو أو التفاهم مع طفلها حول أسباب هذا السلوك ومبرراته .
كذلك فإن العنف بين الزوجين والذي قد يصل إلى السباب أو الضرب أو تبادل الألفاظ الغير لائقة ، أو الشجار الدائم والصوت العالي ينعكس على الأولاد ، فيتصورون أن هذا هو السلوك العادي .. فيتخذون منه وسيلة لتحقيق أهدافهم على مستوى الأسرة والمجتمع .
إن الأولاد الأصحاء نفسيا هم الذين يعيشون في منزل عامر بالحب والوئام ، وإن أي شجار يقع بين الزوجين أو أية مشادة كلامية أو يدوية تترك أسوأ الأثر على نفوس أولادهما ، فإن لكل من الأبوين مكانة خاصة في نفوسهم ، فإذا اختلفا وقع الصراع في نفوسهم ، وركبهم هم لا تقدر نفوسهم الغضة على تحمله ، وربما يبدأون في أخذ موقف من أحد الأبوين بأنه ظالم أو شرير بسبب ما يسمعون منه من شتائم تجاه الآخر ، أو تعد باليد عليه ، وهنا يبدأ البغض الخفي الذي قد تكون آثاره خطيرة كالهروب أو الحقد أو التخريب أو نشوء العدوانية في النفس ، مما يجعلهم ، مُسُوخًا ضعيفة مهترئة ، تحمل من العقد النفسية ونقاط الضعف السلبية ما يعرقل خطاهم ويوقف مسيرتهم في المستقبل لا قدر الله .
كما أن أي تجاهل من الوالدين لأولادهم ، وإشعار بعدم حبهم لقربهم منهم في الجلوس أو الحديث معهم أو مصاحبتهم في ذهابهم ومجيئهم ، يجعلهم يحسون بأنهم هامشيون في حياة البيت ، ولا قيمة لهم ، فيذهبون للبحث عمن يعطيهم قيمة ولو كانت خسيسة أو حقيرة في نظر المجتمع .. المهم أن يجدوا ذواتهم في أي شيء .
أضف إلى ذلك أن حرص الأسرة على تعليم أبنائها قد يدفعها إلى عدم التسامح معهم لأي تقصير في الدراسة ، مما يخلق لدى الطفل نوعاً من الحقد والكراهية ضد التعليم والمدرسة بل والمدرسين ذاتهم ويوجه عدوانه وعنفه تجاههم . وأذكر هنا أن أحد الأطفال كان يرغمه أبوه على المذاكرة بعنف ، ويلوح له بالعصا الغليظة ، وبالحرمان من مزايا عديدة ، وبتخجيله أمام الناس ، ولا يقوم بتحفيزه أبدا ، فظل الطفل يحفظ دروسه ثم يفشل في إجاباته في الاختبار ، وعندما ذهب به إلى المختصين أشاروا على الأب أن يغير من أسلوبه معه ، فتخطا الطالب كل سنواته الدراسية ، وعندما أصبح مدرسا كان من أشرس الأساتذة في تعامله مع طلابه .
وتؤكد د. إجلال أن الشاب أو الطفل الذي ينشأ في أسرة يسودها جو التوتر والعنف في العلاقة يميل إلى سلوك العنف عند الكبر .
وتقرر د. إجلال أن على الأسرة أن تبث في صغارها القيم الدينية التي تدور حول معاني التسامح والحب بين أفراد الأسرة والرضا والقناعة بما هو متاح .. وتربيتهم على قاعدة ( والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ) .
أما الإعلام فمطلوب منه وضع خطة مدروسة للمواد المقدمة للطفل تراعي طفولته واحتياجاته النفسية في هذه المرحلة .. وتستغل ارتفاع ملكة التقليد لديه فتقدم له المادة التي ترسخ فيه القيم التربوية الإيجابية ، ولا تعتمد فقط على عنصري الإبهار والعنف كما هو حاصل مع أفلام الكرتون ومعظمها مستورد .
ويؤكد د. سعيد إسماعيل – أستاذ أصول التربية بجامعة عين شمس – أن بعض الأسر تنهج في تربية أطفالها نهجاً يقوم على القهر والكبت فيغلب عليهم دائماً المنع والحرمان والإجبار ، ويريدونهم كما يحب الكبار فقط بغض النظر عن استعدادات الصغار وقدراتهم وميولهم ، ولا شك أن التربية بهذا الأسلوب تجعل الطفل يحاول التعويض عن ذلك الحرمان والقهر في صورة عدوان وعنف يوجهه إلى الآخرين، وحيث لا يستطيع أن يرد على أبويه أو يواجههما بشكل مباشر فإنه يوجه هذا العنف إلى مدرسته ، ومدرسيه وأقرانه وزملائه وإلى كل رموز السلطة فى أي مجال .
ويذكر لي الدكتور عادل السكري أستاذ علم النفس في جامعة الإمام أن رجلا كان يحلم كثيرا أنه يقتل أباه، فكان يفزع من هذا الحلم المتكرر ، فلما جلس معه الطبيب النفسي علم بأن أباه كان يقسو عليه كثيرا في صغره ، ولأنه لا يستطيع ـ بالطبع ـ أن ينتقم لنفسه بقيت في عالم اللاوعي تخرج على شكل انتقام بالقتل .
وقد يلجاً أحد الوالدين إلى تحريض أبنائهم على عدم الإصغاء لنصائح الطرف الآخر أو تشويه صورته ، أو الإساءة إليه ، مما يؤدي إلى عدم احترام الأبناء لهما ، أو اتخاذهما نموذجاً يحُتذا به في سلوكهم. وقد نجد أبناءهم يتهربون من لقائهما ، ويتسربون خارج الأسرة ، ويبحثون عن بيئة أخرى، لا تسأل ما هي ؟! ربما تكون بيئة مدخنين ، أو مخدرات ، أو عصابات سرقة .. أو أي شيء آخر ؟! فيكون إسهام هذه الأسرة بتخريج أحد أفرادها مجرما يقض مضاجع المجتمع ويقلق راحته الأمنية ؟!
ولا شك أن طريقة التعامل مع الولد لها أهمية كبرى في استقامة الولد أو جنوحه ، إن الأبوين يستطيعان عن طريق الترغيب مرة والترهيب أخرى : أن يصلا إلى ما يريدان من تقويم ما اعوج منسلوك أولادهما ، فإن الضرب ـ ولاسيما في مرحلة المراهقة قد يدفع إلى نشوز الولد أو فجوره في وجه والدية أو خروجه من المألوف في السلوك ، وقد يعمد الشاب أو الشابة إلى هجر البيت والخروج عنه فيصبح متشرداً فتصبح القضية أشد تعقيداً ولا سيما ونحن في زمن قدتحول بعض معاصريه إلى ذئاب مفترسة كاسرة ، تنتظر الضحايا البريئة . فماذا لو وقع الفتى أو الفتاة في يد عصابات الجريمة أو السرقة أو الانحراف أو الدعارة إن خسارة كهذه لاتوازيها خسارة على الإطلاق .
ومن جهة أخرى ينقل عن بعض الأسر اختلافهم على من تقع عليه المسؤولية ، فالأم تتهم الأب بالتقصير وتفضيل الأصحاب والسهر في الاستراحات والسفر للخارج على البيت ، والأب يتهمها بالإهمال في بيتها والخروج الكثير للصديقات والتسوق والمكالمات الطويلة الأمد ، والضحية هم الأولاد ، إنَّ التربية مهمَّةٌ مشتركةٌ بين الأب والأم ، ولا يصحُّ ولا يجوز أن نوجِّه جُلَّ اهتمامنا للتشاحن حول من يقوم بهذه المهمَّة العظيمة ، فلن يستطيع أيٌّ من الطرفين أن يقوم بها على الوجه الأكمل بمفرده ، فتعاون الطرفين لازمٌ وضروريّ . وليكن لكما سويّا جلساتٌ تتَّفقان فيها على استراتيجيَّة التربية، ويمكنكما – بالطبع – الاستعانة بالكتب والدورات التربويَّة أو برأي الخبراء .
سادسا : لا تكن محبتك لهم جسرهم إلى الهاوية :
إن كثيرا من الأولاد ذكورا وإناثا ، صغارا وكبارا يستخدمون ذكاءهم في إقناعنا بما يريدون ، مستغلين عاطفتنا نحوهم ، فتجد من تقول / ( والله كسروا خاطري وخليتهم يروحون مع أصدقائهم ) وهي لا تعرف من أصدقاؤهم ، وآخر يقول : ( حنيت عليه وعطيته الفلوس اللي يبي ) ، وهو لا يدري أين سيصرفها وكيف ، وهكذا ..
أيها الأبوان الكريمان إن من أشد الغفلة ، الغفلة عن الأولاد بحجة أنهم مع أصدقائهم ، أو أنهم يذاكرون ، أو أنهم في رحلة ميدانية ، أو أنهم في المدرسة أو الجامعة ، إذ كيف نمنح الثقة التامة للشيطان الرجيم ألا يسول لهم ولا يفتنهم ، وهم الموكل بإضلال ابن آدم . وكم شاب كان معروفا بالصلاح والاستقامة فمكر له رفقاء السوء فأوقعوه في شراك الرذيلة ، حتى صار لهم مركبا سهلا ، حاصروه بالصور والضغوط النفسية ، ووالداه غافلان عنه .
وكم شابة تظهر لوالديها بثياب العفاف ، تدخل البيت مستغفرة مهللة ، وتخرج منه بسجادتها ومصحفها ، وقد شقت سترة الحياء ، ومزقت وشاح العفاف ، وجرت أسرتها إلى الفضيحة .. حتى يتفاجأ بعد ذلك الأب والأم بالنتيجة التي لا مجال لترقيعها .. نسأل الله أن يستر علينا وعلى المسلمين . وربما كان هو السبب في هذا الانحراف بجلب ما يشعل النار ، ويؤجج الغريزة بعرض الفساد في وسط المنزل عن طريق هذه الفضائيات الرعناء ، وحين تسأله يقول : لم أستطع أن أرد ابني وابنتي فأتيت لهما بالدش الذي رغبوا فيه ، ثم يندم ولات ساعة مندم .
احذروا أيها الآباء من أوقات الغفلة مثل قبيل الغروب وبعيده ، والليل ، وما أدراك ماذا يقع في الليل ، وما بين الظهرين ، وضحى أيام الاختبارات ، فهي مصائد الحرام .
واحذروا من غياب الأبناء والبنات عن عيونكم ، إذا أنزلت ابنتك للمدرسة فلا تمض إلا إذا رأيتها دخلت بابها ، وإذا رأيت أي تغير على سلوكها أو زيادة في زينتها أو تعذرها عن الذهاب إلى المدرسة بالمرض ونحوه ، أو تطلب أن تذهب إلى الصديقات أو إلى السوق كثيرا فابحث وراء الأسباب ، فربما كان وراء الأكمة ما وراءها ، لا قدر الله.
واعلم أن بعض الفتيات سيقت إلى مواطن الرذيلة بسبب عدم حشمتها في لباسها، فإن المرأة إذا خرجت متبرجة استشرفها الشيطان ، وقربت منها الذئاب .
فلا تتساهل أيها الأب في ستر ابنتك ـ مهما كنت تحبها ولا ترد لها طلبا كما تقول ـ حتى وإن كانت صغيرة فالخطورة لم تعد قاصرة على البالغات، بل أصبحت الصغيرة أشد تعرضا للخطف والفتنة والخديعة والهتك من الكبيرة ، والعاقل من اتعظ بغيره.
سابعا : إياك أن تربي ولدا للنار !
أولادنا أكبادنا تمشي على الأرض ، هكذا حفظنا من الحكيم قولته ، ورويناها جيلا بعد جيل ، ولكن السؤال الذي يجب أن يطرحه كل منا على نفسه هو : هل حرصنا على حماية أولادنا يساوي حرصنا على أكبادنا ؟
هناك من يقول : نعم والله ، فإني قد أتأخر في علاج نفسي من مرض يلم بي ، ولكني أبدا لا أتأخر عن علاج أحد من أولادي ذكرا كان أم أنثى .
فأعود أسأله : هل حرصك على علاج ولدك من الأمراض التي تصيب بدنه يساوي حرصك على علاجه من الأمراض التي تصيب روحه وأخلاقه ودينه ؟
لا تجب .. فإني رأيت كثيرا من الأولياء يجيبون سؤالي هذا بصراحة الواقع أن لا .. فمتى رأيت الوالدين يبكيان من أجل تضييع ولدهما الصلاة ، ومتى رأيتهما يغضبان إذا رأيا ولدهما يرتكب منكرا كاستماع الغناء وشرب الدخان والنظر إلى الحرام ؟ ومتى رأيت الوالدين يقلقان إذا رأيا بنتهما تخرج إلى السوق وحدها بكثرة ؟
ولكنك سوف ترى الدموع سجاما إذا رسب الولد في اختبار ما ، وسوف الغضب يبلغ أوجه إذا رأيا الولد قد ضرب من أحد الناس لو كان أستاذه يؤدبه ، وسوف تراهما يقضمان أصابع القلق حين تلم بالولد الحمى أو مرض لم تعرف أسبابه .
إن هذا الذي نطق به الواقع ، وجبن عنه اللسان ، من عدم التوازن في التعامل مع الأولاد ذكورا وإناثا هو الذي أورد كثيرا من الناس موارد الهلكة وسوء العاقبة في تربية أولادهم.
أيها الولي الحنون .. ليس الحنان على ولدك أن تبذل أسباب وقايته من أمراض الجسد فقط ، ولا هو أن تحرص على مستقبله في الدنيا وحسب ، بل إن الحنان الحقيقي هو الذي يجعلك تبذل كل الأسباب لوقايته من أمراض الروح والقلب ومن نار تلظى لا يصلاها إلا الأشقى ، أن تحرص على مستقبله الحقيقي يوم القيامة ، { فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق . خالدين فيها مادامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد . وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها مادامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ }. هناك الشقاء الحقيقي ، وهناك السعادة الحقيقية ، وتكتمل السعادة حين يجتمع الشمل في الجنة بعد شتات الدنيا { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم} . اللهم اجعلنا ممن جمعت شمله بأحبابه في ظل عرشك وعلى منابر جنتك .
إن الأب الناجح المحب لأولاده يعرف ما يقرأون وما يكتبون، ويعرف هواياتهم التي اختاروها لأنفسهم، أو لفتهم هو إليها ونماها فيهم من حيث لا يشعرون، ويعرف رفاقهم الذين يلازمونهم، أو يقضون معهم معظم الأوقات، ويعرف الأماكن التي يرتادها أولاده في أوقات الفراغ، يعرف هذا كله من حيث لا يشعرون برقابته عليهم، فإذا ما وجد انحرافاً منهم في مطالعة، أو هواية، أو تعلق برفيق سوء، أو ارتياد لأماكن مشبوهة، أو اعتياد بعض العادات الضارة كالتدخين، أو العكوف على الألعاب المكروهة أو المحرمة، مما يقتل الوقت، ويهدر الطاقة، ويعود الناشئ على الفراغ واللهو والتفاهة، إذا ما آنس الوالد شيئاً من ذلك في أولاده، ردهم إلى الجادة برفق وحكمة وحزم، وسددهم إلى الصواب بلباقة وإقناع وجد.
ذلك أن كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري.
ثامنا : هل تعرف معنى الحب .. حب أولادك ؟
(( غريب أمر الحب في هذه الحياة ، فلا أحد يشبع منه ، وكل من يحصل عليه يشع بدفئه وصفاته على من حوله ، ولكن هناك وجها سلبيا للحب ، إنه التسلط . فعندما يكون أحد الزوجين متسلطا فهو يفرض جبروته على الطرف الآخر فيعتقد كل قرين أن الطرف الآخر يحب الأطفال أكثر منه ، وكثيرا ما نسمع كلمة قاتلة للحب في نفوس الأولاد الكلمة التي تأتي على لسان المرأة ـ مثلا ـ فتقول : إنني أعيش مع زوجي الديكتاتور من أجل الأطفال ، إن الأطفال قد لا يسمعون هذه العبارة من أمهم ، ولكنها تنتشر بسرعة في العلاقة بين الأولاد من جهة ، وبين الأب والأم من جهة ثانية . إن الأطفال يبدون في تلك الحالة رحلة من الانتقام وضجيج والالتواء وسلوك المزعج وكذلك يسبب الأطفال ذلك الضجيج وينشأ فيهم ذلك الالتواء عندما يقول الأب كلمات مثل : إني أتحمل الحياة مع هذه المرأة من أجل الأطفال إن الأبناء يحبون أن يعيش الأب و الأم معا في حالة حب وأن تستمر العلاقة بينهما قوية ومتينة كما يفضلون أن تكون علاقتهم بالكبار قوية ومتينة ويتخاوفون من أن تتحول الكراهية أحد الزوجين للآخر إلى ثقل على أكتاف الأبناء وعندما تكون العلاقة مفعمة بالتنافر بين الزوج والزوجة ، فلنا أن توقع أطفلا غير مبالين بالصدقاة مع غيرهم ، وأن نتوقع كبارا ينظرون إلى العالم نظرة عدم الثقة ، وأن نرى ألوانا من السلوك تثير الخصومة والتنافر ، وأن نرى أشخاصا يتميزون بالبخل أو المكر ، وأن نسمع في عيادات الطب النفسي عن آلام هؤلاء وعن اشتهاء كل منهم إلى حد الجنون أن يحب أحدا وأن يجد من يحبه ، وهكذا نجد أن الطفل الصغير يختبيء عمليا داخل الجسد الكبير . نعم فكل منا يحمل طفولته داخله ، وهذا الطفل الصغير يسعى إلى نيل الحب ، وكل طفل يحب أن يكون محبوبا ومحبا ، وإلا فإن الطفل سيلجأ إلى إزعاج من حوله لتنبيههم لحاجته إلى الحب ، وجرس الإنذار بضرورة الحب يدق عندما يأتي الأب المرهق من عمله ، ويتجه إلى سرير الطفل ذي الستة أسابيع ليناديه فيبتسم له ، وعندما يبلغ الطفل الشهر الخامس من عمره فيرى السعادة على ملامح الوليد من مجرد مخاطبته ، وكلما كبر الأطفال زادت العوامل التي تؤثر على منح الحب وتلقيه ))([2]) .
ثم أيها ـ الزوجان الكريمان ـ إن الحب تضحية ، وبدون تضحية يصبح الحب لا قيمة له ، وأغلى الناس عندك أسرتك ، وإذا كان من حقك ومن حق زوجتك أن لكلٍّ منكما طموحه العلميّ والمهنيّ ، ولكن مصلحة الأبناء قد تقتضي أن تُضَحّيا ببعض الطموح من أجلهم ، وهذه مسألة تقدَّر بقدرها ، ويجب أن تتناقشا سويّا فيما يجب ، وقد تتَّفقان على أن تترك أنت عملاً إضافيّا أو ترفضه من البداية – على ما قد يكون في هذا من خسارةٍ ماديَّة – إيثارًا لمصلحة الأولاد، وقد ترفض عرضًا للسفر للعمل أو الدراسة إن كان في هذا مصلحتهم، وقد تؤجِّل زوجتك امتحاناتها حتى ينتهي الأولاد من اختباراتهم ، أو ترفض عملا خارج مدينتها من أجل راحة أولادها في مدارسهم وبالقرب من بيئتهم ، وأيّ مستجدٍّ في حياتكما يجب أن يناقش من منطلق الأولويَّات ومصلحة الأولاد .
وتأكَّد أن أيكما يشعر بتضحية الآخر فسيُضحِّي هو أكثر ، وسيكون عطاؤه وإيثاره بغير حدود .
فكانت فجوة خطيرة بين الوالدين وأولادهم ، بينما لو أننا حاولنا أن نقترب منهم بأحسن ما يحبونه ، وهو طابع الحب والمرح لقطعنا معهم مراحل من القرب والامتزاج النفسي . ولجعلنا أطفالنا أكثر حبا لنا وتأثرا بنا . ولو أننا استطعنا أن نلبس الحياة من حولنا ثوبًا مرحا لاستطعنا أن نجعل الأطفال في حالة من الإقبال الإيجابي عليها؛ فالأطفال يحبون المرح والفكاهة في كل ما يتصل بهم، فهم لا يستمتعون إلا بكل ما كان المرح وجهًا له من حركة ولمحة ولفتة وكلمة وتعليق. هكذا هم الأطفال بروحهم الصافية، فعلينا أن نعرف ذلك وندركه ليسهل علينا إيصال رسائلنا الجادة إليهم ، ولكن بعد صياغتها وفق ما يحبون ويعشقون . وهناك كلمة حكيمة تقول: ” إنك لتنفذ إلى الناس بخفة الظل أسرع بكثير مما تستطيعه برجاحة العقل” فكيف بأولادك حبات قلبك .
إن القلب يتعلق أول ما يتعلق بالروح المرحة المنطلقة المحبة المقبلة على الحياة ، وإذا كان هذا شأن الكبار الذين يعملون عقولهم ليزنوا الأمور، فما بالنا بالطفل الذي لم يدرك بعد سوى كل ما يتعلق بالقلب ؟ ونلمح ذلك في كل موقف مع الطفل، فإنه يقبل على الوجه المبتسم ، ويلتفت للمناغاة ويرد تحية الكبار المبتسمين بأحسن منها . بينما يخاف من المتجهمين ، وينفر ممن يصرخ به ويهدده .
يجب علينا ـ أيها الآباء ـ ألا نصد الأطفال عن حب الحياة بعبوسنا المستمر، بل علينا أن نضاحكهم نتفادى التصادم المستمر معهم ، ونمرح ونضحك معهم ، فهذه هي قاعدة الحب الأولى التي ننطلق منها لنقيم علاقة حب حية وقوية مع أطفالنا ، تلك العلاقة التي نمنحها مناخًا مهيئًا ليسمع منا ويتمثل صفاتنا وإذا كان لكل إنسان مدخل ومفتاح ، فهذا هو المدخل الأساس للطفل . بل إن ذلك يمنحنا نحن شيئا من الراحة من أعباء الحياة ، حتى لتجد أن طفلك يجذبك جذبًا نحو طفولته حتى لتتمنى أن تعود طفلا .
إن هذا يحتاج منا صبرا وجهدا ومعرفة ورغبة صادقة حقيقية إيجابية في إقامة علاقة حميمة مع هذا الطفل الحبيب، علاقة صداقة متكافئة ندبر لها المواقف المرحة التي تجمعنا بطفلنا ونؤلف لها الحوارات المختلفة لنصل لروحه الجميلة الغضة. فنشاركهم أحاديثهم العذبة بلغتهم ومفرداتهم ، علينا أن نلعب معهم ونندمج في هذا اللعب لحد الضحك الصافي من قلوبنا ، لا ضحك تمثيل ومجاملة؛ فهم على درجة عالية من الحساسية التي يستطيعون معها التمييز بين الحقيقي والمزيف من المشاعر والأفعال. ليس المطلوب أن نبرهن على حبنا لهم بل علينا أن نعرف كيف نحبهم كيف نجعلهم يدركون عمق هذا الحب ويثقون به فنبرهن بما يفهمونه ليقتنعوا حقًا بأننا أصدقاء . وبعد هذه الصداقة بل في طياتها وفي رحلتها تكون كل الرسائل التربوية التي نريد إرسالها فيكون استقبالها جيدًا لها.
إن المسلم الصادق لا يملك إزاء هذا الهدي النبوي العالي أن يكون متجهماً لأولاده، جافاً في معاملتهم، فظاً في مخاطبتهم، حتى ولو كان في طبعه جفاء، وفي خلقه جفاف وكزازة؛ ذلك أن هذا الدين بما جاء به من هدى منير، يرقق القلب، ويفجر ينابيع الحنان، ويذكي أوار الحب، فإذا الأولاد قطع من القلب تسعى على الأرض .
أبناؤنا في الغد هم ثمار ما نزرعه اليوم، وكلما اهتممنا بما نزرعه داخلهم اليوم وهم في أول الطريق بالتأكيد سيظل داخلهم ينمو معهم ويكوّن شخصيتهم .. إذا أعطيناهم حبًا واهتمامًا حقيقيًا ووقتًا ستكون النتيجة في النهاية مبهجة .. فقط حاول ولا تستسلم لما يفرضه عليك الواقع الشخصي والظروف الخاصة التي تعيشها ، أو ما تفرضه على نفسك من ظروف تعوق دون تحقيق ذلك التواصل بينك وبين أبنائك ؛ لأن قليلا من الوقت والحب ـ ولكن بشكل دائم ومستمر- لهما كثير من التأثير على أطفالك وأحبائك .
يقول الله جل في علاه : { المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا } .
تاسعا : حين يفتقد الحب :
لن أتحدث أنا في هذه الفقرة ، بل سأدع الحديث بين شخصين هما شاب يشكو أباه ، ومستشار مختص في شؤون الأسرة يرد عليه :
يقول الشاب : أنا الابن الأصغر في أسرتي المكونة من ابنين وابنة وأمي وأبي. وبعد ولادتي بفترة قصيرة مرضت أمي فاهتمت برعايتي أختي الكبرى. فكانت أماً ثانية وهي في سن المراهقة.. وبعدما شفيت أمي أغدقت علي من حنانها ورعايتها الشيء الكثير لإحساسها بما سأعانيه من مرارة اليتم وإحساسها بأن عمرها لن يطول لرعايتي. وكان والدي يعارضها على عطفها.. ولذا حاول تعويض ذلك بتشديده علي حتى لا يفسدني التدليل. وتزوجت أختي وسافرت للخارج مع زوجها وهي في سن الثالثة والعشرين ولم يحقق رغبة أبي إلا الأخ الذي يلي أختي الكبرى في الالتحاق بالكلية التي تخرج فيها أبي ليواصل رحلة الكفاح والنجاح.
توفيت أمي بعد سفر أختي للخارج وأنا في الثانية عشرة من عمري. فتجرعت مرارة اليتم.. ومرضت وتعثرت في الدراسة.. وخشي أبي أن أفشل في الدراسة، فضغط علي لكي أتفوق كبقية إخواني.. وبذلت كل جهدي لكن ذلك لم يسفر إلا عن النجاح بصعوبة.. وبدأ أبي يضربني ويراقبني ويتهم شقيقي بالتستر على عدم مذاكرتي.. وخاصمني ولم أسلم من تهكمه اللاذع.. وكنت أتألم كثيراً وأضاعف من جهدي ولكن النتيجة دائما على حافة السقوط.. أو نجاح بالكاد، ولا يرحمني من اللوم والسخرية.. وتزوج أبي وأنا في الصف الثاني من المرحلة الثانوية وكانت زوجته معي طيبة وأكثر رفقاً بي من أبي. وعندما رسبت في الثانوية العامة كاد أبي أن يقتلني ولم يصدق أبي أني بذلت كل ما أستطيع وزاد الطين بلة حينما رسبت ثلاث مرات متتالية.. وازدادت الحالة سوءاً.. فقاطعني أبي نهائياً وحرمني من المصروف ومن الملابس ومن كل شيء وعشت على مساعدة شقيقي وشقيقتي التي في الخارج دون علم أبي وأديت الخدمة العسكرية ولم يتوسط أبي لنقلي لمكان قريب أو مريح لأنه لا يشرفه أن ابنه بدون مؤهلات.
وسافر أخي للحصول على درجة الدكتوراه.. واعتبرني والدي “عار الأسرة” وأمرني بعدم زيارته في البيت أو العمل أو الذهاب إلى النادي.. وذهبت وعملت في محل أحذية بأجر معقول.. وعندما علم والدي نزل علي سباً وشتماً وأمرني بعدم العمل في هذا المحل “لأنهم علموا أني ابن فلان المشهور
وأمرني أن أعمل في مكتبه بمبلغ بسيط ولكني آثرت الإحتكاك به.. لأنه يسخر مني باستمرار وأنا دائما أشعر بالنقص عن الآخرين.. فصفعني بشدة وخيرني بين عدم بقائي في البيت وبين قبولي لعرضه.. ولأول مرة أرفع عيني في عينه.. وخرجت من المنزل لأعيش في فندق متواضع، ساعدني شقيقي الحنون في دفع حساب أسبوع مقدماً، على أمل أن أهدأ وأعود للبيت.. وعدت للمحل التجاري، إلا أنه بعد فترة استغنى عني لتهديد والدي له. وطاردني والدي من محل لآخر وكان شقيقي يساعدني ويقف بجانبي. وقد طرت من الفرح حينما علمت بحصول أخي على الدكتوراه من إحدى الدول الأوروبية. وساعدني أخي في الحصول على مبلغ من والدي بعد أخذ ورد لأدفع خلو شقة في منطقة شعبية واشتري ما يلزم من أثاث لأتزوج ورفض أبي أن أتزوج من إنسانة بسيطة متدينة وتسبب في قطع رزقي من المحل لكي يمنعني من الزواج.. ورغم التهديد والوعيد تزوجت وهنأني إخوتي ووقفوا جانبي مادياً ومعنوياً.
واشتريت محلاً صغيراً بمساعدة زوجتي وأهلها.. وتفرغت له.. ووهبني الله طفلاً جميلاً.
ورغم اعتراف الجميع بالخلق الطيب.. والتدين والأمانة.. والنفس النقية التي لا تكن أي ضغينة لمخلوق.. ورغم أني كونت أسرتي وأصبحت مسئولاً عنها بدخلي البسيط ووجدت كل ما افتقدته من حنان ورعاية مع هذه الزوجة الحنونة. إلا أن جريمتي الوحيدة هي أنني لم احصل على شهادة دراسية.. ولم يستطع والدي بعد مرور ثلاث سنوات على زواجي أن يغفر لي جريمتي هذه ويعاملني كما يعامل الأب ابنه.. رغم عدم حاجتي إليه في شيء مادي أو في أي مصلحة.. سوى إحساس الأبوة والمعاملة الطيبة.. ورغم أنني أقسمت له بأنني على استعداد للتنازل بصفة رسمية عن نصيبي في الإرث بعد عمر مديد.. مع أنني أصله وأزوره كل شهر ولكنه يقابلني بعبوس وتجهم ولا يستقبلني بابتسامة أبداً وكل ما أريده أن يغفر لي.. وأن أشعر أني ابنه رغم فشلي الدراسي.. وأنني “بني آدم “له إحساس وشعور وكرامة.. ولست”عاراً” للعائلة.
الـحـل:
قال جل شأنه: {إنا كل شيء خلقناه بقدر} فالناس يتفاوتون ويختلفون في إقبال الحياة عليهم وفي حظهم من التعليم والتوفيق.. وتختلف شخصياتهم كما تختلف أوراق الشجرة الواحدة.. وتتفاوت القدرات بين الناس.. ثم قبل ذلك بعد ذلك تأتي مشيئة الله جل شأنه.. ويلزم التيم والرضا بها.. صحيح أن الآباء يريدون لأبنائهم أن يكونوا دائماً الأفضل والأرقى حتى عنهم.. ولكن ماذا يحدث إذا لم يحالفهم التوفيق.. أو حالت قدراتهم الطبيعية دون تحقيق ذلك؟ هل ينبذ الآباء أولادهم ويبعدونهم عن حياتهم ومجتمعاتهم، كأنهم “عار” يلزم التبرؤ منه؟ وكيف يفعل الآباء ذلك.. وتوفيق الأبناء أو فشلهم في الحياة لا يغير من حقوقهم وواجباتهم شيئاً؟ بل لعل الضعيف منهم أحق بالعطف والرعاية حتى ينهض من عثرته ثم يتساوى الجميع في الحب والرعاية.. كما أمرنا رسول المحبة بعدم التفريق في المعاملة والمحبة بين الأبناء لأي سبب من الأسباب.. وهل يلزم أن يكون الأبناء مجرد قطع يحركها الأب ويوجهها الوجهة التي يريدها بنفس النتيجة التي توقعها؟.
نعم لقد أساء هذا الأب تجاه هذا الابن إساءة جسيمة فبدلاً من احتوائه وتغيير مسار دراسته وتوجيهه الوجهة التي تتناسب وقدراته.. طرده من رحمته وحنانه.. بل وسعى في مضايقته ومحاربته في لقمة عيشه والاصرار على هذا الموقف العنيد رغم تحمل هذا الابن مسئولية نفسه وأسرته وكفاحه المستمر حتى لا يحتاج لعون والده أو أمواله أو نفوذه.
وكل خطئه أنه لم يحصل على شهادة دراسية أو وظيفة مرموقة. ألم يحمد هذا الأب ربه ويستعيد ابنه إلى حضنه، لأنه قد اجتاز قسوته وطرده ومحاربته بسلام وبشرف وبأمانة وكان من الممكن أن ينحرف في هذه السن الخطيرة نتيجة هذه المعاملة المتحجرة.. كأن يسرق أو يدمن المخدرات ويسلك طريق الرذيلة والضياع.
إن هذا الابن يستحق الاحترام والتقدير على اجتياز هذه المحنة ومواجهته للحياة بمفرده وتحمله مسئوليته ومسئولية أسرته بالتزامه الأخلاقي وأمانته مع الآخرين والحب الذي يكنه للجميع والاستقامة والارادة القوية.
لكن هذا الابن لابد وأن يشعر أولاً باعتزازه بنفسه وثقته في نفسه بصورة واضحة وأن يثق في قدراته وجدارته بحب الآخرين واحترامهم له.
وحاول أيها الابن البار أن تصل والدك، حتى لو ظل على هذا الموقف الغريب، أملاً في هدايته.. وحتى ترضي ضميرك وتصل رحمك وتحتسب هذا العمل عند الله وتجعله أولاً وأخيراً لوجه الله.
واستمر في رحلة كفاحك في الحياة بنفس صافية راضية وسيوفقك الله لحياة هادئة سعيدة ناجحة.. واعلم أن والدك هو الخاسر الأول “لو استمر على هذا الحال ” لبعدك عنه.
لقد انتهت قصة هذا الشاب بنهاية ليست دائما هي النهاية الطبيعية ، بل ربما تكون النهاية الطبيعية لمثل هذه المأساة ، ما قصه الأستاذ التائب يوسف الصالح ، الذي نشر قصته بتمامها في شريط له بعنوان ( هذه قصتي ) أتنمى أن يسمعه كل أب وكل أم ، فالبداية كانت جفوة الوالد وتهديده ، والنهاية مهرب مخدرات وعاق في والديه وشرور وآثام كبيرة ذكرها وأشار إليها التائب نفسه ، ثم شاء الله له أن يفيق فأفاق ، أسأل الله أن يتوب عليه .
وهذه واحدة من قصص كثيرة حدثت ولا تزال تحدث من جفوة الآباء لبناتهم بالذات ، الجفوة التي لم تعوض بحنان الأم وحبها ، فراحت البنت تبحث عن الحب خارج المنزل .. ( قصة ) في غفلة عن عيون الوالدين ، وسمعهما ، وفي الغرفة الخاصة بهما ، كانت الكبرى تترقب رنين الهاتف ، صدح الجرس هرعت إليه كما تفعل في كل مرة ، وبدأت المكالمات الدافئة ، وتأججت العواطف ، وتطور الأمر إلى الخطوة الأخرى في غفلة عن قول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين } إنه الشاب نفسه يطلب موعدا ولقاء شريفا لمجرد جلسة نزيهة ، أيتها الحبيبة أنا أحرص منك على عرضي وعلى عرضك كيف ونحن نريد أن نكون زوجين في المستقبل ، ألست تثقين بي ، وكيف لا .. وقد جهزها عاطفيا لتقبل كل شيء ، وخرجت إليه تحت جنح الظلام ، وفي المرة الأولى مدت يدها عليه من باب الفضول ، فقال لها : حرام عليك أن تمدي يدك علي فنحن لم نزل غير زوجين ، ونحن لا بد أن نستغفر الله عن هذه الجلسة ، فقالت الفتاة : هذا الذي أبحث عنه ، إنه عفيف نزيه ، ثم أخذها في المرة الأخرى إلى المنزل وهناك ذهب الحياء ، ووقت الكارثة ، وفقدت الفتاة عفتها وشرفها ، ولكن هذه الفتاة لم تنه هذه القصة إلى هذا الحد المؤسف ، بل أوقعت أختها الصغرى في الشبكة نفسها ، فأتت بها إلى عشيقها ، وفي الطريق وهو يحمل بدل الواحدة اثنتين ، مزهوا بهذا الإنجاز الشيطاني ، وقع حادث مفزع ، فتموت الكبرى وتبقى الصغيرة تعالج إصاباتها الخطيرة ، تحفها دعوات الوالدين والأهل أن ينزع الله روحها ، ولا يبقيها لحظة في الحياة ، بعد أن لطخت وأختها شرفهم ، وأزهقت عرضهم .. وذهبت الفتاتان ضحية الإهمال ، والثقة الزائدة ، والتمكين من أدوات الانحراف .. إنه العار .. إنها الفضيحة .. التي لم تقع في خاطر هاتين الفتاتين .. الغافلتين المغفلتين ، ولا في خاطر الأسرة المشغولة بكل شيء إلا بأولادها .
أخي الكريم .. أختي الكريمة ..
إن مثل هذه الحوادث الأليمة هي نتيجة أخيرة لإهمال بطيء بدأ بالجفوة التي تكون بين الآباء والأبناء ، وإهمال النواحي العاطفية ، وتنمية الحب بينهم ، إذ تنقطع حبال المحبة الخالصة والولاء للأسرة بين الأولاد ذكورا أو إناثا وبين آبائهم . فتتفتح أسماع الأولاد لأي كلمة حب من الخارج ، ويلتفت بروحه وقلبه إليها ، ويستجيب لداعي الهوى ، ولا سيما الفتاة .
عاشرا : الرسول r وحب الأطفال :
القلب الفياض الذي وصفه الله تعالى بقوله : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } [سورة آل عمران 3/159] . ماذا نتوقع أن يكون شأنه مع الأطفال ؟!
لقد حدثنا أنس رضي الله عنه فقال : “ما رأيت أحداً كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : كان إبراهيم مسترضعاً له في عوالي المدينة ، فكان ينطلق ، ونحن معه ، فيدخل البيت ، فيأخذه فيقبله ، ثم يرجع ” (رواه مسلم) .
وتتسع رحمة الرسول الكريم بالبراعم المسلمة المتفتحة ، ويمتد رواقها الظليل فيشمل الصغار وهم يلعبون، فإذا هو يغمرهم بعطفه وحنانه، كما يروي أنس رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كلما مر بصبيان هش لهم وسلم عليهم (متفق عليه).
وكان من أقواله التربوية الخالدة: “ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف حق كبيرنا” (رواه أحمد والحاكم، وإسناده صحيح).
لقد كان الرسول المربي العظيم يحاول دوماً، وهو يصوغ النفوس أن يفجر فيها ينابيع الرحمة، ويفتح كوامنها على الحب والحنان، أخص خصائص الإنسان .
جاءه يوماً أعرابي فقال: أتقبلون صبيانكم؟ فما نقبلهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة؟” (رواه الشيخان).
وتروي السيدة عائشة أم المؤمنين: “أن فاطمة كانت إذا دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم قام إليها، فرحب بها، وقبلها، وأجلسها في مجلسه. وكان إذا دخل عليها قامت إليه، فأخذت بيده، فرحبت به، وقبلته، وأجلسته مجلسها. وأنها دخلت عليه في مرضه الذي توفي فيه، فرحب بها، وقبلها” (رواه الشيخان).
ولا شك أن العلاج يبدأ بنشر كلمة الحب في المنزل ، فما أجمل أن ينادي الأب ولده بيا حبيبي ، ويا حبيبتي لابنته ، وأن يخبرهم واحدا واحدا في فرص مناسبة بهذا الحب ، ويكتبه على مظروف هدية ، أو ورقة دفتر الرسائل الخاصة ، إن ذلك يصنع مناخا عاطفيا إيجابيا في المنزل يجعله أكثر إيجابية ؛ فيتربى الأولاد في بيئة نقية .
ولذلك فإنك حينما تكون معهم استمع إليهم بكل اهتمام ، وامنح كل واحد منهم فرصة الحديث حتى تمامه دون مقاطعة، واحذر أن يشعر الصغير بأنك بدأت تنصرف عنه.
ضع طفلك في حجرك وقبله ، وأنت تحمد الله تعالى أن جعلك أبا ، فقد كان رسولنا صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك ، وقد ورد عدد من الأحاديث بأنه يقبل الأطفال أمام الناس ، وأن الصبي أو البنت يبولان في حجره . وكان يحملهم أحيانا في صلاته ، وحين ركب أحد الحسنان ظهره قال (( نعم المطية مطيتكما )) .
اشترك في تلبيس الأطفال أو تسريح شعورهم بكل حنان ، مستمتعا بمشهد الابتسامات الرائعة على ثغورهم النقية : لقد أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثِيَابٍ فِيهَا خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ صَغِيرَةٌ فَقَالَ مَنْ تَرَوْنَ أَنْ نَكْسُوَ هَذِهِ فَسَكَتَ الْقَوْمُ قَالَ ائْتُونِي بِأُمِّ خَالِدٍ فَأُتِيَ بِهَا تُحْمَلُ فَأَخَذَ الْخَمِيصَةَ بِيَدِهِ فَأَلْبَسَهَا وَقَالَ أَبْلِي وَأَخْلِقِي وَكَانَ فِيهَا عَلَمٌ أَخْضَرُ أَوْ أَصْفَرُ فَقَالَ يَا أُمَّ خَالِدٍ هَذَا سَنَاهْ وَسَنَاهْ بِالْحَبَشِيَّةِ حَسَنٌ . رواه البخاري . إنها طفلة حبشية ، لقيت من رعاية رسول الأمة أن طلبها وألبسها بيده الشريفة ، فلماذا تحرم أطفالك من لمسات يدك التي يتمنونها ، فلا يجدونها إلا ضربة قاضية على أجسامهم الطرية ، أو كفا على مكان تشوق لقبلاتك ، حتى إن آثار جريمة ضرب الآباء لأولادهم الصغار تبقى علامة فارقة في وجوه أطفالهم فترة من الزمن قد تبقى طوال العمر .
أخي الوالد الحنون .. إن أطفالك قد تعبوا من أصدقائك الذين يسرقونك منهم ليلا ونهارا ، فإذا خصصت وقتا لأولادك ، فلا ترد على هواتف غيرهم ، ولا تسمح بأن تقتطع من وقتهم المخصص لهم أي موعد لغيرهم ، بل أشعرهم بأنك دعيت فأبيت الذهاب من أجلهم ، وأن الهاتف الذي ظهر رقمه الآن هو لأحد أصدقائك ولكنك تركت الحديث معه من أجل بقاء الوقت معهم خالصا لهم صافيا من كل الأعمال الأخرى ؛ ليشعروا بالغبطة والسرور ، والإحساس بأنك لهم . بل أشعرهم أنك معهم دائما حتى في غيابك بالاتصال الدائم بهم ، ولا تبخل عليهم بذلك فإن لإسرتك حقا لا يفوقه إلا حق الله ثم حق الوالدين .
أخي الوالد العزيز .. وإن من الضروريِّ أن يكون للوالدين مع أولادهما ـ كذلك ـ جلساتٌ أخرى لمناقشة سلوكيَّاتهم معهم ، فردية إذا كان فيها ما يخجل ، وجماعية للأسرة كلها إذا كانت سلوكيات عامة يشترك فيها مجموعة منهم ، ويكون ذلك في إطارٍ من الحبِّ ، وباستخدام الحكاية في السنِّ الصغيرة ، أو باستخدام أسلوب المناقشة والحوار وتجنُّب فرض الرأي للأكبر سنّا ، ويفضَّل ـ في حالات المشكلات الخاصة جدا ـ أن يكون لكلِّ ابنٍ وقتٌ خاصٌّ به يجلس فيه مع الوالدين، ويُسمَح له بالحديث في أي أمرٍ يشغله.
الحادي عشر : أساليب عملية لاستعادة عرش الحب في المنزل :
وإنما أولادنـــــا بيننا |
|
أكبادنا تمشي على الأرض |
إن هبت الريح على بعضهم |
|
تمتنع العين مــن الغمض |
(البيتان في شرح الحماسة للتبريزي 1/275 لحطان بن المعلى).
الوالدان ذوب عاطفة ، ودفقة حنان ، وموجة رعاية وتضحية واحتضان . ولكن خشونة الحياة ومتاعبها الطويلة العريضة التي لا تكاد تنتهي تجعلنا نتوقف كثيرا عند كلمة الحب التي أبحرنا معها من قبل ، نتفقدها في بيوتنا ، ونطمئن على وجودها ، ونسعى لابتكار الأساليب والطرق المناسبة لتنميتها معنى رقيقا جميلا في فم الأيام ؛ لنعيش معهم طعم السعادة المفقود في كثير من الأسر اليوم .
هذه بعض الأساليب العملية لاستعادة عرش الحب في المنزل :
أولا : أخبرهم أنك تحبهم واحدا واحدا :
أقصد أن تقول لكل واحد منهم أنا أحبك يا ولدي .. هكذا بكل صراحة .. أرجوك وأرجوكِ لا يقل واحد منكما أيحتاج الأب أن يقول لأولاده ( إني أحبك ) .. نعم يحتاج ، فهو لم يسمعها منك من قبل .. فدعه يسمعها .. وانظر ماذا سيحدث ؟! ربما يتعجب ويقول ماذا حدث لوالدي اليوم ؟! وما الذي طرأ لوالدتي ؟! أرأت حلما مزعجا عني ؟! هل أخبرها أحد بأمر ما ؟! ولكن لا تدعه يسبح في خيال من هذا النوع .. بل قل له : أحببت أن أقول لك ما يدور في داخلي منذ أن خلقت في بطن أمك ، سوف ترى واحدا من أولادك يحمر وجهه خجلا ويسكت .. وثانيا يندهش وتتسع أحداقه ويتمتم بكلام لا تفهمه ، وثالثا يرد عليك بثقة .. وأنا أحبك يا والدي .. وأحبك أنت أيضا .. يا والدتي !!
والإخبار بالمحبة كانت من سنة الرسول r ، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلن حبه لعائشة tا ، حدث عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السُّلَاسِلِ فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ عَائِشَةُ فَقُلْتُ مِنَ الرِّجَالِ فَقَالَ أَبُوهَا قُلْتُ ثُمَّ مَنْ قَالَ ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَعَدَّ رِجَالًا .
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتَهُ قَالَ لَا قَالَ فَأَخْبِرْهُ قَالَ فَلَقِيَهُ بَعْدُ فَقَالَ وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ فِي اللَّهِ فَقَالَ لَهُ أَحَبَّكَ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي لَهُ )) رواه أحمد .
ثانيا : قبلهم واحدا واحدا :
َقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الحسنين : (( هُمَا رَيْحَانَتَايَ مِنَ الدُّنْيَا )) رواه البخاري.
وكان كثيرا ما يشمهما ويقبلهما في مواضع كثيرة من أبدانهم شفقة وحبا .
فلماذا لا تقبل أنت أولادك ؟ العجيب أن نسمع بعض الأمهات تقول : إنها لا تقبل أولادها ؟! لا أدري أهذا ترجل مصطنع ؟ أم جفاء ؟ وإن الرجال الأشاوس هم من أرق الناس قلوبا إذا رأوا أولادهم .
روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل الحسن بن علي، فقال الأقرع بن حابس: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من لا يرحم لا يرحم” (متفق عليه).
ثالثا : العب معه :
إن اللعب للأطفال كالعمل للرجال في التخفيف من أعباء الضغوط النفسية ، بل هو ضروري جدا لتنمية طاقاتهم ، واكتشاف الحياة من حولهم ، بل وتمكينهم من كسب مهارات التعامل مع الأشياء والآخرين .
ولا تقل لي : إني اشتريت لهم ألعابا كثيرة جدا ، وها هي ذي بين أيديهم ، وبين آونة وأخرى أذهب بهم إلى أماكن الألعاب العامة .. ألا يكفيهم ذلك ؟ أقول لك : لا لا يكفيهم بالطبع ، إنهم يريدونك أنت أن تلعب معهم ، صغارا كانوا أم شبابا مراهقين ، ذكورا أم إناثا !
خصص لهم يوما في الأسبوع للعب في المنزل أو في استراحة أو أي مكان مناسب، والعب معهم وامرح ، رفه عنهم وعن نفسك ، وافرح بهم ، فإن الطفل كما قال الشاعر:
وهل دللت لي الغوطتان لبانة |
|
أحب من النعمى وأحلى وأعذبا |
وسيما من الأطفال لولاه لم أخف |
|
على الشيب أن أنأى وأن أتغربا |
وعندي كنوز من حنان ورحمة |
|
نعيمي أن يغرى بهن وينهبا |
… يزف لنا الأعياد عيدا إذا خطا |
|
وعيدا إذا ناغى ، وعيدا إذا حبا |
كزغب القطا لو أنه راح صاديا |
|
سكبت له عيني وقلبي ليشربا |
ينام على أشواق قلبي بمهده |
|
حريرا من الوشي اليماني مذهبا |
وأسدل أجفاني غطاء يظله |
|
ويا ليتها كانت أحن عليه وأحدبا |
ثم لماذا تفهم اللعب بأنه لا بد من التفرغ له ، مازحه بالكلام العذب ، كما سأل الرسول r أحد أطفال الصحابة فقال له : ما فعل النغير يا عمير ؟! نبي الأمة يسأل الطفل عن عصفوره الذي مات . وهذا مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ يتذكر طفولته فيقول : عَقَلْتُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجَّةً مَجَّهَا فِي وَجْهِي وَأَنَا ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ مِنْ دَلْوٍ *رواه البخاري
نعم لست أكرم من رسول الله r ، الذي كان يمتطيه الحسنان وهو ساجد فلا يقيمهما ، وقد تزوج صلى الله عليه وسلم عائشة صغيرة فحملت معها لعبها إلى بيته، وكان لها أرجوحة ، ودمى ، وكان يترك صبيان الحبشة يلعبون في المسجد . ويحمل عائشة لكي تراهم من وراء حجاب .. بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسابقها فتسبقه مرة ويسبقها مرة . وكان كذلك يلعب مع بعض الصبيان ، حتى كان ليدلع لسانه للحسن بن علي ، فيرى الصبي حمرة لسانه ، فيهبش إليه ، أي يعجبه ويسرع إليه.” السلسلة الصحيحة 70 . كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصف عبد الله وعبيد الله وكثير بني العباس ويقول من سبق إلي فله كذا وكذا فيستبقون إليه فيقعون على ظهره وصدره فيلتزمهم ويقبلهم” الراوي: عبدالله بن الحارث المحدث: الهيثمي – المصدر: مجمع الزوائد – الصفحة أو الرقم: 9/288 خلاصة الدرجة: إسناده حسن.
فلماذا لا تقتدي أنت برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتجعل لنفسك مع أولادك وقتا تلعب فيه معهم ، إنني أقترح عليك أن تحضر الألعاب إلى منزلك حسب قدرتك ، وأن تختار الألعاب الأكثر حيوية ونشاطا وذكاء ، وأن تترك فرصة واقعية للعب ، ولا تسرف فيها ، وأن تحذر من الألعاب الخطرة صحيا وفكريا ، بل أن تخصص ـ إذا استطعت ـ غرفة في المنزل للألعاب الرياضية ، وأمثالها ، ثم .. انزل الميدان معهم ، والعب مع أطفالك في المنزل أو في الأماكن العامة المناسبة .
يقول الإمام الغزالي رحمه الله : (( وينبغي أن يؤذن له [ أي للطفل ] بعد الانصراف من الكتاب [ أي من الحلقة أو المدرسة ] أن يلعب لعبا جميلا يستريح إليه من تعب المكتب ، فإن منع الصبي من اللعب وإرهاقه بالتعلم دائما يميت قلبه ، ويبطل ذكاءه ، وينغص عليه العيش ؛ حتى يطلب الحيلة في الخلاص منه )) . وقال : (( ويعود الصبي في بعض النهار المشي والحركة والرياضة حتى لا يغلب عليه الكسل )) الإحياء : 3/163 .
إن كثيرا من الآباء والأمهات يظنون أنهم حينما يقضون مع أولادهم بعض الوقت خلال الطعام والتلفاز قد ألهى كل عين ، وأصم كل أذن عن الآخر ، أنهم قد منحوا الوقت الكافي لأطفالهم ، الواقع أن شيئا من ذلك لم يتم ، فليس المهم هو مجرد قضاء بعض الوقت مع الأطفال ، ولكن الأهم هو كيفية قضائك لهذا الوقت معهم ؟!! فقد يكون الأب مستهلكا في هذه اللحظات بسبب العمل المرهق ، أو يكون مشدودا إلى برنامج أو مشغولا بسلسلة من المكالمات الهاتفية ، أو تكون الأم مشغولة بأعبائها المنزلية ، وبهمومها الشخصية التي تذهب بذهنها مسافات بعيدة عن أولادها ، وقد تكون امرأة عاملة لا تجد الوقت أو الطاقة لقضاء بعض الوقت مع أبنائها …
وهذا أحد الآباء يجتاحه الحنين ـ وهو في دوامه الرسمي الطويل ـ إلى طفلته ذات الربيعين ـ فيصور أشواقه إليها فيقول :
وعندما يحين موعد اللقاء
أظل في اشتياق
عيناي تحلمان بالعناق
بضمة تبوح للحياة سر لذة الفراق
بطعمه الذي يغور في القلوب كالغريق
لكنه في لحظة اللقاء كالبريق
يفيض بالبهاء
فيروي الظماء
وحينها أراك .. ( رانيه )
فتشرق الحياة فوق كل لحظة وناحيه
وتهرب الهموم يا صغيرتي
مذعورة وطاوية
تهب نسمة كأنها .. أواه ليس في حدائق البيان قافيه
والسؤال .. هل شعرت بكل هذه المشاعر وأنت في هموم عملك ، وبكل هذا الشوق إلى أولادك .. فالوالدان ذوب عاطفة ، ودفقة حنان ، وموجة رعاية وتضحية واحتضان . إن التواصل مع الأبناء هو قوة حضور الوالدين ومدى تأثيرهما في أطفالهما خلال ذلك، وليس كم الوقت الذي يقضونه معهم..
فبتنظيمك لوقتك أيها الأب ورغبتك القوية في إثبات قدرتك على القيام بالتزاماتك جميعها سوف يكون الوقت الذي تقضيه مع أولادك وقتًا ممتعًا ومفيدًا يقربك منهم ويؤثر في نموهم النفسي والعاطفي والبدني والعقلي والاجتماعي .
رابعا : قدره ولا تستصغره :
فربما وجدنا بعض الآباء دائم الانتهار لولده ، يطردهم من مجالس الرجال ، وإذا دخل خوفهم حتى يرتعبوا منه ، ويذكرهم دائما بأنهم أطفال ، وربما احتقر من شب منهم ولو بلغ سن الرشد ، هذا ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عُرِضَ يَوْمَأُحُدٍ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْه ، ثُمَّ عَرَضَه يَوْمَ الْخَنْدَقِ وهو ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازه ، قَالَ نَافِعٌ راوي الحديث فَقَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ خَلِيفَةٌ فَحَدَّثْتُهُ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ إِنَّ هَذَا لَحَدٌّ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَكَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ أَنْ يَفْرِضُوا لِمَنْ بَلَغَ خَمْسَ عَشْرَةَ *رواه البخاري .
وهذا عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ حين أراد قومه أن يختاروا لهم إماما فنظروا كما يقول : (( فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَكْثَرَ قُرْآنًا مِنِّي لِمَا كُنْتُ أَتَلَقَّى مِنَ الرُّكْبَانِ فَقَدَّمُونِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَأَنَا ابْنُ سِتٍّ أَوْ سَبْعِ سِنِينَ وَكَانَتْ عَلَيَّ بُرْدَةٌ كُنْتُ إِذَا سَجَدْتُ تَقَلَّصَتْ عَنِّي فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْحَيِّ أَلَا تُغَطُّوا عَنَّا اسْتَ قَارِئِكُمْ فَاشْتَزَوْا فَقَطَعُوا لِي قَمِيصًا فَمَا فَرِحْتُ بِشَيْءٍ فَرَحِي بِذَلِكَ الْقَمِيصِ((رواه البخاري .
خامسا : اعدل بين أولادك :
فإنه لا يوغر الصدور مثل إظهار حبك لأحد أولادك أكثر من بقية إخوانه وأخواته، وربما جلبت له البلاء ، ألم تسمع قول الله تعالى يحكي قصة يوسف وإخوته : {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوْ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ (9) } .
هذا النُّعْمَانُ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ أَعْطَانِي أَبِي عَطِيَّةً فَقَالَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنِّي أَعْطَيْتُ ابْنِي مِنْ عَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ عَطِيَّةً فَأَمَرَتْنِي أَنْ أُشْهِدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَعْطَيْتَ سَائِرَ وَلَدِكَ مِثْلَ هَذَا قَالَ لَا قَالَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ قَالَ فَرَجَعَ فَرَدَّ عَطِيَّتَهُ * *رواه البخاري . وفي رواية مسلم : (( أَكُلَّ بَنِيكَ قَدْ نَحَلْتَ مِثْلَ مَا نَحَلْتَ النُّعْمَانَ قَالَ لَا قَالَ فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي ثُمَّ قَالَ أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا إِلَيْكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءً قَالَ بَلَى قَالَ فَلَا إِذًا )) .
إن الأم حين تظهر حبها وتفضيلها لأحد أولادها على غيره إنما تزرع بغضه في قلوبهم ، وتزرع من وجه آخر بذرة العقوق في نفسه في المستقبل ؛ لأنه سوف يشعر بعد أن يكبر أنها كانت سبب بعد قلبه عن قلوب إخوانه ، بل سوف يكتشف أن أسلوبها التربوي كان يبني فيه الأنانية وحب الذات واحتقار الآخرين ، وتظل هذه الصفات الدنيئة مؤذية له ولمن يتعاملون معه طوال حياته إلا إذا نجاه الله منها بفضل منه سبحانه .
وهنا أود التفصيل في قضية مهمة ، وهي المشكلة الاعتيادية والخطيرة في الوقت نفسه ، والتي تتمثل في الشعور بالغيرة حين قدوم الوليد الجديد ، فالوالدان إما أن ينجحا في وقف هذا الشعور أو في زيادته مع كبر السن وتداعي الأحداث في حياة الأطفال ، وأول ما يزرع الغيرة في نفوس الأطفال هو الشعور بعدم المساواة .. حينما ينتقل اهتمام الوالدين إلى الوافد الجديد ، ويجد الطفل نفسه وقد انسحبت الأضواء من حوله ، وتحول كل الاهتمام من أجل إطعام وتنظيف ولبس هذا الجديد الصغير ، والأم تقول لا أستطيع رعاية الطفلين معًا. والأب يقول وكيف أقوم برعاية لم أفعلها من قبل ، وربما يظل الشعور بعدم المساواة إذا لم يعالج منذ البداية يتصاعد بين الأشقاء ويزرع الغيرة بينهم .
وكان الأولى أن تمهد الأم الإخوة السابقين لقدوم الرضيع الجديد بما يفهمونه من أساليب إلى استقباله بحفاوة ومحبة ؛ بصفته سميرا سوف يؤنسه ، وشقيقا يعينه ويلعب معه، ويكن له المحبة والمودة . وينبغي ألا تندفع الأم في تدليل الصغير وإبداء الشغف به أمام إخوته ؛ حتى لا تشعل نار الغيرة في قلوبهم ، وتوغر صدورهم بالحسد منذ سن مبكرة . وأن تفهم الإخوة أن عنايتها الزائدة بالطفل الصغير لأنه في حاجة إلى ذلك ، وقد نالوا من العناية مثل ذلك حين كانوا مثله . كما يمكن أن يعمد الأهل لدفع الولد الكبيرللمشاركة بقرارات الأعداد لاستقبال الصغير . وترك الفرصة له للمساعدة في العناية به بإمساكه أو إمساك الزجاجة لإطعامه . وطمأنته بأندماه وممتلكاته الخاصة لن تعطى للوليد الجديد وهذا ما يرسخ إحساس ابن ما قبلالمدرسة بالأهمية وبأن له مكاناً مأموناً في الأسرة، الأمر الذي يجعله أميل للتكيفمع الوضع الجديد .
سادسا : شجعه على كل فضيلة وإنجاز :
عندما يلزم طفلك الأدب ويلعب معتمدًا على نفسه دون إزعاج : أظهري له إعجابك وفخرك بسلوكه، ولا تنسي تأثير القبلة والكلمة الرقيقة على نفسية صغيرك الحبيب كل ذلك سوف يكسبك محبته وتقديره .
سابعا : اجلس معه جلسات تربوية خاصة :
من الضروريِّ أن يكون للوالدين مع أولادهما جلساتٌ لمناقشة سلوكيَّاتهم، في إطارٍ من الحبِّ وباستخدام الحكاية في السنِّ الصغيرة ، أو باستخدام أسلوب المناقشة والحوار والصراحة غير المحرجة وتجنُّب فرض الرأي للأكبر سنّا ، ويفضَّل أن يكون لكلِّ ابنٍ وقتٌ خاصٌّ به يُسمَح له بالحديث في أي أمرٍ يشغله.
ثامنا : تحمل طفلك في جميع مراحله وكما هو :
إن مما يحيل حياة الأسرة جحيما أن يطلب الوالدان من أولادهم ولاسيما الصغار والمراهقين أن يكونوا دائما هادئين ، إن هذا لا يمكن أن يكون مع أولاد أسوياء أذكياء ، بل الطبيعي أن يحدثوا ضجيجا فيسمعه الآباء تغريدا ، وشجارا فيحسبه الآباء لعبا بريئا ، وربما أتلفوا وخربوا فيحسبه الآباء محاولات للاكتشاف والتنقيب عن أسرار الحياة .. إني لأهديكما أيها الوالدان هذه الدرة الشعرية لوالد خرج منه أولاده التسعة إلى بلدتهم حلب وتركوه وحده في مصيف قرنايل بلبنان حين عادت الدراسة وأحب هو أن يرتاح من مشاغباتهم قليلا من الوقت .. فماذا حدث ؟ إنه راح يفتش المكان والزمان فلما لم يجدهم فيه إذا بمشاعره تفيض فينادي وحيدا فريدا في غربته :
أين الضجيج العذب والشغب |
|
أين التدارس شابه اللعب |
أين الطفولة في توقدها |
|
أين الدمى في الأرض والكتب |
أين التشاكس دونما غرض |
|
أين التشاكي ما له سبب |
أين التباكي والتضاحك في |
|
وقت معا ، والحزن والطرب |
ويسترسل في تصويره الحي ؛ فيرسم (( لوحات فنية شاخصة ، ترى فيها الطفولة اللاهية العابثة المرحة في اندفاعها واسترسالها وعفويتها وبراءتها ، خطت خطوطها ريشة الفنان الوصاف ، فلم تغادر شيئا في ساحة الطفولة وعرامها إلا رسمته … ))([3]). ثم يلتفت إلى ما يلامس علاقته بهم ملامسة مباشرة ، وهو شأن كل إنسان يفقد حبيبا كان ملء قلبه وعينيه ، فإنه يظل يتذكر منه ما كان سبب محبة أحدهم للآخر ، أو أجمل المواقف بينهما ، لأن ذاك هو ما فقده منه ؛ يقول :
أين التسابق في مجاورتي |
|
شغفا إذا أكلوا وإن شربوا |
يتزاحمون على مجالستي |
|
والقرب مني حيثما انقلبوا |
يتوجهون بسوق فطرتهم |
|
نحوي إذا رهبوا وإن رغبوا |
فنشيبدهم ( بابا ) إذا فرحوا
|
|
ووعيدهم ( بابا ) إذا غضبوا |
وهتافهم ( بابا ) إذا ابتعدوا |
|
ونجيهم ( بابا ) إذا اقتربوا |
بالأمس كانوا ملء منزلنا |
|
واليوم ويح اليوم قد ذهبوا |
وكأنما الصمت الذي هبطت |
|
أثقاله في الدار إذ غربوا |
إغفاءة المحموم هدأتها |
|
فيها يشيع الهم والتعب |
إني أراهم أينما التفتت |
|
نفسي ، وقد سكنوا وقد وثبوا |
وأحس في خلدي تلاعبهم |
|
في الدار ، ليس ينالهم نصب |
وبريق أعينهم إذا ظفروا |
|
ودموع حرقتهم إذا غلبوا |
في كل ركن منهم أثر |
|
وبكل زاوية لهم صخب |
في النافذات زجاجها حطموا |
|
في الحائط المدهون قد ثقبوا |
في الباب قد كسروا مزالجه
|
|
وعليه قد رسموا وقد كتبوا |
ويختم القصيدة بالموقف العاطفي الذي تعرض له في لحظة الوداع ، وهو دائما أصعب المواقف على المتحابين ، لأنه يهدم سبب اللذة الحاصلة في اللقاء :
دمعي الذي كتمته جلدا |
|
لما تباكوا عندما ركبوا |
حتى إذا ساروا وقد نزعوا |
|
من أضلعي قلبا بهم يجب |
ألفيتني كالطفل عاطفة |
|
فإذا به كالغيث ينسكب |
قد يعجب العذال من رجل |
|
يبكي ، ولو لم أبك فالعجب |
هيهات ، ما كل البكا خور |
|
إني وبي عزم الرجال ، أب |
تاسعا : جرب أن تتحدث باهتمام مع ابنك أو تشاركه أي نشاط : أو لعب من أي نوع يحبه ومدى تأثير ذلك على علاقتكما .. أعطه في هذا الوقت المخصص له بشكل يومي الاهتمام والتركيز الحقيقي لكل ما يقول أو يفعل … انظر في عينيه واستمع له ، ولا تقاطعه ، ولا تتركه وهو يتحدث إليك لتفعل أي شئ آخر ؛ لأن في ذلك إهمالاً له يفقده الرغبة في التحدث معك ، وقد يشعره بأنه شخص غير مهم ، وما يتبع ذلك من أثر سيئ على نفسيته … استمع إليه وهو يتحدث عن نفسه وعن علاقاته مع الآخرين ، عن مخاوفه ، وأحلامه ، عن رغباته الخاصة التي قد لا تهمك أنت ، وعن رفضه لبعض أو لكثير من الأشياء وأسباب رفضه لها، وذلك ليتعلم كيف يعبر عن نفسه وعن مشاعره وليتعلم الشجاعة في مواجهة ما يجهله أو يخافه ..
الخاتمة :
إن الإسلام وهو يقدر عاطفة الوالدين قدرها ، وحبهما الكبير لأولادهما ، فإنه لا يكتفي بعاطفتهما الفطرية وحنانهما على الأولاد، إذ ربما يعرض في الحياة ما يلهي عن الولد، ويصرف الوالدين أو أحدهما عن التضحية في سبيله بطيبات الحياة ، أو يخشن العيش ، ويستحكم الإملاق ، فيتذمر الوالدان أو أحدهما من ثقل التبعات ، وفداحة الأعباء ، وبهظ النفقات ؛ ولهذا كله رفد الإسلام عاطفة الوالدين الفطرية بما أعده لهما من ثواب عظيم ، تهون أمامه التضحيات ، ويصغر العذاب ويتلاشى البؤس والإملاق .
عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، هل لي أجر في بني سلمة أن أنفق عليهم، ولست بتاركتهم هكذا وهكذا؟ إنما هم بني، فقال: “نعم لك أجر ما أنفقت عليهم” (متفق عليه).
فالحياة مع الأولاد استثمار في الدنيا بالبر والصلة والفرحة والأنس والشعور الفياض بالأبوة ، واستثمار في الآخرة بأجور لا يعلم مداها إلا الله ، فكل عبادة أو خلق علمته أحدا من أولادك ، فاستقاموا عليه فلك مثل أجره وأجر من أخذه عنهم إلى يوم القيامة ، فسبحان من يحصي الحسنات .. سبحانه ..
وفي ختام هذه المحاضرة التي زكت بعبق أنفاسكم الطرية أورد هذا الدعاء العظيم من الإمام علي بن الحسين السجاد رضي الله عنه وهو يدعو لأولاده فيقول : (( اللّهُمَّ ومُنَّ علي ببقاء ولدي، وبإصلاحهم لي وبإمتاعي بهم. إلهي امدد لي في أعمارهم، وزد لي في آجالهم، ورَبِّّ لي صغيرهم، وقوَّ لي ضعيفهم، وأصحّ لي أبدانهم، وأديانهم، وأخلاقهم، وعافهم في أنفسهم، وفي جوارحهم، وفي كل ما عنيتُ به من أمرهم…)) (3). اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وعلى آله أجمعين . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . |
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.