هكذا أحسبه
الهرفي.. النبيل الراحل
أمران لا يستطيع الإنسان – مهما أوتي من مال أو جاه – أن يحصل عليهما بمجرد ماله وجاهه، الذكر الحسن، والخاتمة الحسنة، وهما من مبتغيات الإنسان عموما، والمسلم خصوصا، ودونهما تتقطع أكباد، وتلتوي أعناق، ولا غروَ؛ فالذكر للإنسان عمر ثانٍ، كما قال شاعر العربية المتنبي، قيل لرسول الله «صلى الله عليه وسلم»: “أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه، قال تلك عاجل بشرى المؤمن”. رواه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب إذا أُثنيَ على الصالح فهي بشرى ولا تضره، وقال: “أنتم شهداء الله في الأرض”. رواه البخاري كتاب الجنائز باب ثناء الناس على الميت.
دين الفطرة؛ فهو لا يصادم محبوبا لدى المؤمن به، ولكن يسمو به ويوجهه، وكذلك رأيت فيما حدث إثر الحادث الأليم الذي رحل بسببه فقيد الفكر الأصيل، والأديب الأريب الأستاذ الدكتور محمد بن علي الهرفي، رحمه الله رحمة واسعة، وأغدق عليه سحائب رضوانه.
عشرات الألوف ممن عرفوه في تعاملهم معه: أخا كريما، ووالدا حانيا، وصديقا وفيا، وأستاذا ناصحا، ضجَّت ردهات (تويتر) بتعبيراتهم الصادقة عن صدمة الفاجعة، والدعوات المبتهلة لله «عز وجل» أن يتقبله شهيدا، وأن يجعل ما أصابه رفعة له، وأن يخلفه في عقبه وما ترك من إرث علمي وفكري رزين خيرا وافرا.
ونحسبه «والله حسيبه» محبا لله تعالى، ولرسوله «صلى الله عليه وسلم»، ولدينه الذي ظل منافحا عنه، مدافعا عن مبادئه أمام خصومه من كل جنس ولون، يقول كلمة الحق لا يحفل بلوم لائم، ولا بتخذيل جبان.
لقد عرف الناس أبا عبدالرحمن قلما صادقا، لا يعرف التزييف، حدِبا على وطنه، يتبنى مواقفه المشرفة، ويخدمه في أي ثغر يكون فيه، حتى مات وكان آخر ما كتبه على حسابه التويتري هو بيعته لولي أمره خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، فلقي الله تعالى وفي رقبته بيعة شرعية، وهي من سيماء الإيمان بلا شك.
وأما آخر أيامه فقد كانت في مسجد رسول الله «صلى الله عليه وسلم» معتكفا على كتاب ربه، يتلو ويدعو ويصلي صلاة بألف صلاة.
وشهد له من رآه بأنه تلفظ بالشهادتين مرارا، {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويضل الله الظالمين، ويفعل الله ما يشاء}.
هكذا أحسبه «والله حسيبه ولا أزكي على الله أحدا» رجلا اختار أن يبقى في محراب العبادة حتى آخر لحظة، تعبَّد ربَّه بالكلمة الناصحة، وبالقول الحسن، فلا تكاد تفقد صوته الهادئ الواثق في محفل أو مؤتمر أو فضائية أو إذاعة أو صحيفة.
ومن وراء تلك المشاهدات العلنية، كانت له هناك وراء الأستار، مواقف لا يتقنها إلا الرجال العظماء، يدافع عن مظلوم، ويشفع لمحروم، ويجزل العطاء لمحتاج، ولم تتكشف هذه الأستار إلا بعد أن توسَّد فراشه الأخير في هذه الدنيا، حيث جاء أولئك من كل مكان ليسروا أولاده بذلك، وإني لواحد من هؤلاء، جزاه الله عني وعن كل من ذبَّ عنه خير الجزاء.
وهكذا فإن للمخلصين روائح تظل حبيسة حتى يلقوا ربهم، فإذا قضوا فاحت أعمالهم الطيبة مسكا وعنبرا، ولكل موقف شاهد واحد فقط.
وأما عن أخلاقه، فاسأل من جالسوه، إذ لم يكونوا يملوا مجالسته، واسأل من اعتذر منهم، كيف حول اعتذاره إلى إحسان، واسأل من زاروه فرأوا كرما نادرا في هذا الزمان، واسأل من حاوروه، كيف كان يصبر على الإساءة، ولا يرد إلا بما يؤمن به دون إيذاء.
لم يكن محمد بن علي الهرفي غير إنسان، عرفه أولاده بأنه أخ وصديق وأب، ويكفي ذلك شهادة للرجل في نبل خلقه، وسموِّ روحه.
اللهم ارحم عبدك محمدا واجعل مقامه في عليين.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.