تشكو أمها.. فإلى من تشكو ؟

تشكو أمَّها

فإلى من تشكو ؟

د.خالد الحليبي

 

تعرضتُ ـ كثيرا ـ لحالات تردني في مقرِّ الإرشاد الأسري، تؤذي إنسانيتي، تُربكني، تجعلني أتألم كثيرا .. كثيرا .. كيف .. لا، والشكوى من بنتٍ نبتت في أحشاء من تشكو منها؟! نعم .. حتى بِتُّ أتساءل: هل تحولت هذه الحالات إلى ظاهرة ؟ أرجو أن يكون الجواب: لا.

ولكون الحالة التي بين يدي قد حظيت بقلم متميز في التعبير والصدق، فسأدع هذه الفتاة تحكي بنفسها حكايتها مع أمها، تقول:

في هذه المرة سيكون حديث قلمي مختلفا جدا.. يحكي واقعا أعيشه، يحكي فراقا للنصف الآخر من الجسد.. للنصف الآخر من القمر .. أحببت أن يشاركني قلمي البوح والألم كما عودني على ذلك.. ألمي ألم يختلف عن كل ألم .. إنه ألم أعشقه .. وكيف للألم أن يُعشق؟؟!!

إنها وبكل أسى ومع كل زفرة حسرة .. (أمي)

نعم .. هي أمي .. أمي كلمة تترنم بها كل فتاة إلا أنا.. كلمة تتعلق بها كل بنت إلا أنا.. كلمة تحبها كل فتاة إلا أنا.. ومن المؤلم أن تعيش هذا الشعور فتاة في عمر العشرين.. في عمر الفرح والزهور..

أمي بالنسبة لي مصدر خوف ورعب وألم وحرمان وقسوة ودمعة …نعم.

ألمي أنا هو حنان وعطف وحب ومشاعر مرهفة بالنسبة لكل فتاة.. أما أنا فهو مثال عظيم من القسوة والإهمال .. استنتجت منه أن الإهمال يخبرنا بصوت أنيق أن نبتعد.

أسأل الله ألا أكون عققتها بكلماتي هذه، فأنا والله لم أقصد العقوق، بل هو بوح بواقع أعيشه فإن لم ينطق به لساني أو دونه قلمي فهو ألم يملأ قلبي.

نعم .. أمي شيء لا أعرفه .. إحساس لم أتذوقه .. حضن لم أشعر بدفئه .. فأنا لا أعرف وجه أمي بقدر ما أعرف ظهرها .. لا أعرف إقبالها بقدر ما أعرف إدبارها .. نعم.. لم أحس بدفء يدها ولم أتذوق يوما طعم حضنها.

كل شيء أحبه وأحظى به اليوم أعرف وأتأكد أني غدا سأحرم منه، ومن الذي يحرمني؟؟ إنها أمي.

أعاني كثيرا في المناسبات، فأنا لا أريدها أن تراني أضع المكياج.. لا أريدها أن تراني أصفف شعري؛ لأنها بذلك تغضب كثيرا.. لا أدري لماذا ؟؟ فكل الأمهات هن اللاتي يفعلن ذلك لبناتهن وهن اللاتي يخترن لهن ما يلبسن.

أتمنى أشياء وأشياء ولكن بوجود أمي كل شيء مستحيل وصعب المنال.. أصبحت أعشق الصمت؛ لأنها لم تدع لي أحدا أصله وأتحدث إليه.. أصبحت أعشق الصمت لأني لا أجد من أبوح إليه.. يستحيل أن أبوح لأمي بشيء حتى وإن انجرفت في المهالك!!

أنا يتيمة ولكن يُتْمٌ من نوع آخر .. إنه يتم على يتم!

نعم أنا يتيمة وأمي على قيد الحياة .. وما أشده من يتم عندما تموت أمك وهي على قيد الحياة.

أصبحت أرسم أمي في الخيال وأحتضنها.. أصبحت أرسم أمي في السماء وأتحدث إليها.. أصبحت أرسم أمي على الماء فتختفي.. أصبحت أرسمها في الخيال وأبث لها شكواي.

أنا وهي كالليل والنهار لا يجتمعان .. كالماء والنار لا يقترنان .. وإن اجتمعنا يستحيل أن نتفق.

فعلا والله لم أتذوق القسوة والألم إلا من ذلك الشخص الذي هو للآخرين مصدر حنان وعطف.

أهاب صوتها .. أهاب وجودها .. أهاب حتى ظلها .. لا أشعر بالحرية والارتياح إلا في حال تفارق المنزل .. فهي – بحق – أغلقت علي كل الأبواب، وضيقت علي الخناق، فأصبحت كالذي يتنفس من خرم إبرة كما يقال … إلخ“.

بوحٌ مرٌّ، وقد يكون مرفوضا من بعض الأمهات، ولكن هذا الرفض لن يغير من حقيقة الأمر شيئا.

إذا لم تنصت الأم لابنتها فمن ينصت؟ وإذا شعرت البنت بأن أمها سر رعبها، فمن يحنُّ عليها؟ أعرف أن الفتيات المراهقات قد يحدثُ منهن ما لا يحسن، وما قد يثير أعصاب الأمهات الفاضلات، ولكن إذا لم تحتويها أمٌّ ماهرة مربية حليمة، فمن سيحتويها؟

الجواب أمرُّ من هذا البوح بكثير .. بكثير .



اترك تعليقاً