التشاغل بالغبار

جحيم يتضرم بلا هوادة

د. خالد الحليبي

ما يجري من حولنا جحيم يتضرم بلا هوادة، وآفاق معتمة لا يدري المستغرق في تأملها كيف ستُطوى صفحاتها، ولا كيف ستكون مآلاتها، كل وسائل الاستشراف والتنبؤات تبوء بالفشل، والنار تُضرِم النار، والحرب تنشب ولا تعود ولا خطوة للوراء، والمتأهبون لإطفائها كلَّت عزائمهم، بل أصبح بعضهم كالحراس عليها شعروا أم لم يشعروا؛ كسدنة المجوس يرون في بقاء النار بقاءهم، وفي فنائها فناءهم، وقد يصاب الإنسان بداء خطير، وهو إدمان المرض، والاستمتاع بوجوده؛ لأنه يحقق له وجودا فاعلا، من خلال التفاتات الناس إليه، وسؤالهم عنه، فيكون في عين الاهتمام؛ أو ما يسمى (دور الضحية).

ومع ذلك فإننا نجد من يضرم النار في الهشيم المهمل؛ ليشغلنا به، أو ليحقق له وجودا جديدا بعد أن تضاءل وجوده الشخصي، فينجح في انتزاعنا من كل اهتماماتنا المصيرية، لنلتفت إليه ونترك ما يُنتظر منا في هذه الحقبة الخَطِرة من تاريخ الرقعة التي يتوسطها وطننا المقدس.

إن الأمر جدّ، والمرحلة التي نخوض غمارها لا تقبل التلهي بالصغائر، ولا تأجيل التأمل واتخاذ القرار الحازم تجاه كل اتجاهات عقارب الساعة بلا استثناء، هذا هو الزمن الذي أصبحنا نحتاج فيه إلى ست أعين؛ حتى لا نغادر زاوية من الزوايا المشتعلة من حولنا، وليس هذا زمن الانزواء والعض على جذع شجرة؛ بعيدا عن الفتن، بل لا بد من الاصطفاف الفاعل حول قيادة شرعية واحدة، تقود كل الطاقات بكل اختصاصاتها نحو هدف واحد ذي ثلاثة أبعاد: الأمن الداخلي، والتنمية المحلية، وأمن الحدود.

و(نحن) المسؤولون عن كل هذه الجبهات، وحدنا المسؤولون في وحدات تقودها الدولة بمهارة وتوازن، وإخلاص منا واستعداد وشجاعة، وعمل دؤوب لا يعرف الملل ولا الكلل، بل يتقدم في خطوط متوازية نحو تحقيق تلك الأهداف المصيرية.

ومن أسوأ ما يحدث أن ننكفئ على أنفسنا، ونتشاغل بمعارك تافهة، أو نفتح ملفات كانت موصدة على ما فيها من مواد قابلة للاشتعال، ونصدّرها، ونتناقش فيها، وأحيانا نتشاجر من أجلها، وأحيانا تصل بنا إلى المحاكم، وكأنها هي الأهم، فيفرح بذلك المتربصون والحساد، وما أكثرهم، لا كثرهم الله!! ومن حقهم أن يفرحوا وقد كفيناهم تمزيق صفنا، وقمنا بما كانوا يحتاجون فيه إلى عملاء وعملات وعمل لا يعرف الكلل!!

من حق كل ذي رأي أن يقول رأيه، إلا أن يكون رأيا يفرق الصف، ويثير البغضاء، ويزيد التوتر، فهو مردود عليه، ولن نبحث عن وسيلة لاسترضائه، بل عليه أن يصمت وحسب.

الذي يجب أن يؤمن به كل مواطن ومقيم على حد سواء، أن استمرار الرخاء والاستقرار في بلدنا لن يكون إلا بالتمسك بشرع الله تعالى وهو صمام الأمان، والتماسك المجتمعي الذي يرحم الله به الناس في كل أمة، يقول الله تعالى: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}.

كل فرد منا لديه رعية يرعاها، أسرته التي يمكن أن يخرج منها إنسان صالح مصلح مخلص لدينه ولوطنه ولأمته، ويمكن أن يخرج منها إنسان ناقم حقود، يكون جاهزا ليُجنَّد من أي صاحب هوى أو مأرب خفي، ويمكن أن يُختطف من أحضانها وهي لا تشعر، من خلال الشاشة الساحرة، التي تسببت في تحويل ثلة من شبابنا إلى قنابل تتفجر في كل مكان، من أسواق العراق إلى مساجد بلاد الحرمين الآمنة المطمئنة.

والموظف والمسؤول والحارس رعاة على ما استرعاهم عليه ولي الأمر، ومسؤولون أمام الله تعالى عن رعاياهم، ولو فقه كل منا هذه القضية، وحرس موقعه، وأغلق ملفات الخلاف، والتفت إلى الإنتاج، لقطعنا السبيل على البغاة، الذين {كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله، ويسعون في الأرض فسادا}.