موازنة البيت.. كان يا ما كان!
حين يرتفع سعر أية فاتورة من الفواتير المنزلية، أو أية سلعة استهلاكية ضرورية للحياة ترتفع أصواتنا، ونطالب بقوة بالعودة إلى السعر السابق، خوفا من زيادة النفقات المرهقة لكاهل عائل الأسرة، ونتذكر حينها الإيجار والكهرباء والماء والهاتف والصيانة ومصاريف العيد والمدرسة و…، وفي الوقت نفسه نتعامل مع الدخل الشهري بطريقة غريبة للغاية، تشتته كما يتشتت طابور النمل بلمسة واحدة.
فحين نأخذ معنا قائمة المطلوبات المنزلية إلى الأسواق الكبرى، ونلتقط العربة التي أنجبت في الفترة الأخيرة عربة صغيرة ملونة يدفعها الطفل وهو بصحبتنا (لاستغلال طفولته)، ثم نتجول بأعيننا وبطوننا ليس بعقولنا، فنعود بأضعاف ما سجلناه في قائمة الاحتياجات الفعلية.
وحين نريد الذهاب إلى احتفال تكريمي لطفلة في الروضة أو فتاة في الثانوية أو معلم تقاعد أو امرأة ولدت.. فعلينا أن نذرع الأسواق طولا وعرضا ونشتري الملابس المناسبة، والهدية المتفردة، والطبق المنافس، حتى ليكلف الشخص الواحد أكثر من ألف ريال على الأقل، بحسب الطبقة الاجتماعية التي تقيم هذا الحفل، أو حتى المدرسة الأهلية أو الحكومية.
وحين يحل الصيف، تبدأ عمليات الضغط على عائل الأسرة المثقل بالديون أن (يدبر نفسه) لتوفير مبلغ يكفي للسفر إلى أصقاع الأرض شرقا وغربا؛ حتى يتمكن الأبناء والبنات من رصد هذه الرحلة الفارغة من المضمون من إرسال التقارير السياحية اليومية عبر حساباتهم المصورة؛ ليبهروا الأصدقاء والصديقات، ويقهروا غير المستطيعين، ويشبوا النار في بيوت الآخرين؛ ليضغطوا بدورهم على عائلهم (ليدبر نفسه) ويأتي بالمال من أي وجه!! فلا يعودون بكتاب نافع، ولا بزيارة جامعة، ولا حتى متحف علمي، وإنما مكررات العولمة الموجودة في كل بلاد الدنيا.
وحين نختار الفندق الذي نسكنه، فلا بد من أن يكون خمس نجوم، لا لأننا نستطيع ماليا «لينفق ذو سعة من سعته» بالطبع دون إسراف، ولكن ـ فقط ـ حتى نبدو في مظهرية زائفة أننا سكنا الفندق الفلاني، حتى وإن كان الثمن دَيْنا موجعا بالليل والنهار.
وحين نختار المطعم، فإننا لا نختاره لنشبع، ولا لأنه أفضل طعاما، ولكن حتى نقول: أكلنا في المطعم الفلاني، وشربنا في الكوفي شوب الفلاني، وتبدأ عمليات التصوير على عدد من البرامج المختلفة، للأطباق وللكوب ولأيدينا المزركشة (السيدات) وبات من الطبيعي جدا أن نحرص على الأغلى ثمنا حتى لا نبدو بخلاء أمام الأقارب والأباعد.
وبعد ذلك كله، فلابد من إهداء جميع الأقرباء والأصدقاء، ولابد أن تكون الهدايا على مستوى (التمظهر) وليس على مستوى الدخل البائس الذي تتناوشه شركات التقسيط!!
وفي الوقت الذي تئن فيه كثير من المقالات والتغريدات مع أنين المحتاجين إلى سكن، وتكيل الانتقادات لوزارة الإسكان، فإنك لا تجد من هذه الأقلام من واجه حقيقة الإسراف الخطير الذي يصب ذهبا وفضة على جدران البيوت الجديدة، ويجبل منها الأثاث الفاخر، والتحف، والتصاوير التي تعلق هنا وهناك، حتى تحول عدد من البيوت إلى متاحف ومحلات أثاث، أكثر منها مساكن.
سألت أحدهم: كم بلغ الدين الذي عليك بعد أن سكنت بيتك الجديد؟ فأجاب أكثر من مليون ونصف المليون!!!
كيف سيسددها؟ كم من الزمن سيحتاج؟ ولماذا كل هذا؟ هل صرفت على أمور تعد أساسا في البيوت؟ أم فقط على كماليات ومظهريات؟؟
«ومن قُدِرَ عليه رزقُه فلينفقْ مما آتاه الله، لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها». هذا هو ميزان الصرف المنزلي، الإنفاق من الموجود فقط، والدَّين خط أحمر!!
كان الهاتف واحدا، فأصبح أكثر من عدد أفراد المنزل، وكانت السيارة واحدة، فأصبح لكل رجل وشاب سيارة، وكان يا ما كان في قديم الزمان راحة وطُمأنينة ونمو في العلاقات مع قلة الصرف، وزاد الصرف والعطاء وكثرت معه القطيعة، وزاد التفرق، ونمت الجدران بين أفراد الأسرة الواحدة، حتى صار الفرد يحس بالغربة في بيته.
ماذا تريدنا أن نصنع؟!! كل الناس يفعلون ذلك!!
هذا أبرز عذر يواجهك به هؤلاء!!
ولا أدري، حين يأخذ غريمك بناصيتك إلى المحكمة ثم إلى السجن ـ لا قدر الله ـ هل ستجد ممن جاملتهم، وبذلت كل ذلك من أجلهم، من (يفزع) لك، أبدا.. إلا ما شاء الله.. بل سيحوقلون ويسترجعون ويقولون: كان يا ما كان في قديم الزمان، «امرأة بطرانة ورجل بطران»!!
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.