عيدٌ بأية حال
د. خالد الحليبي
نعم، سيبقى العيد وعاء للفرح والبهجة والشكر للرب جل وعلا، مهما حاولت قُوى الشر والجهل أن تحيله إلى تنور يلفحنا بلهيبه وسمومه وحميمه، ستعلو تكبيرات العيد على أصوات التفجير والتدمير والصراخ الأهوج، وستلف الثياب البيض كل السواد الذي تتركه حرائقهم التي يشعلونها في كل مكان، بلا إيمان ولا إنسانية.
عيدٌ.. نتبادل فيه الدعوات بأن يتقبل الله تعالى منا الصلوات والصدقات والصيام، وأن يلم شملنا، وأن يستعملنا فيما يرضيه، وأن يتقبل منا دعاءنا على المجرمين الذين بدأوا بالقربى فاغتالوهم، والتفوا إلى ظهر وطنهم فطعنوه، وانتهى بهم الأمر إلى بيوت الله فحولوها إلى ركام من الألم والحرقة والدهشة والدمعة والدماء.. حدَّ الذهول!! حتى بلغ كيدهم ومكرهم أن يروّعوا مرقد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وينتهكوا حرمة رفع الصوت عنده بتفجير يسفكون فيه الدم الحرام، بالقرب من حرمه، وفي ساعة فرحة الصائم عند فطره.
كثير غيرهم ظنوا أنهم قادرون على أن يهزوا قواعد هذا البنيانِ الراسخ، فرجعت معاولهم خاسئة حسيرة كسيرة، بنيان أُسس على كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والله خير حافظا، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
مهما كانت الحال فأهلا بالعيد، أهلا بالعيد في ربوع الحرمين الشريفين الآمنين، وتبا للأيادي الآثمة، التي تتطاول على مقامهما، وتتجرأ على مراد الله تعالى فيهما: {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [سورة القصص 28/57]. {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [سورة العنكبوت 29/67]. {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} [سورة الحـج 22/30].
مهما كانت الحال في العراق وفي سوريا وفي اليمن وفي الجرح المزمن (فلسطين) فسوف يقتحم (العيد) كل الصفوف، ويمر من بين أرتال المدرعات، ويتسور الأبراج الحربية، ويزور البيوتات التي تهطل عليها براميل الظَّلمة، ويمسح الجراح، ويبتسم في وجوه بقايا الشفاه المزمومة بالحزن والألم والقهر، وسوف يُنطق الألسنة التي أخرستها المناظر المروعة، لتقول لمَنْ ينتظر بعد ومَنْ قضى نحبه: عيد مبارك.
في العيد كل عام تمتلئ الشوارع في صربيا، وفي روسيا، وفي ألبانيا، وفي الهند، وفي بريطانيا، وفي كل مكان بالمصلين، حتى لا تستطيع الكاميرات أن تلتقط لهم صورة بانورامية، فتلجأ إلى الطائرات؛ لتقول تلك الجموع: الإسلام ولد في مكة؛ ليعيش في كل شبر في الأرض، «ليبلُغنَّ هذا الأمرُ مبلغَ اللَّيلِ والنَّهارِ» [صحيح على شرط الشيخين].
في العيد تغتسل الأرواح قبل الأبدان، تستهلُّ رحلة جديدة مع الخالق، ومع المخلوق، تأهلت خلال ثلاثين يوما لتكون ألطف من الضوء، وأبهى من القمر، وأوسع من البحر.
على أية حال، يهل العيد بفرحته وصفائه وروعته، علينا نحن أن نصوغ أحرفنا المتناثرة على طرقات الحياة قصيدة يستحقها الزائر البهيج، حتى لو أجَّلنا بعض مشاعرنا التي لا تليق بروحه العذبة، فلربما نسيناها وارتحنا من سطوتها على قلوبنا ومزاجنا وما نحتته من أبداننا من أخاديد قد لا تردم مدى الحياة!!
لن يستطيع أحد من أعداء السلام والأمان البشري أن يوقف تدفق أشعة الشمس يوم العيد، فهي تشرق رغما عنهم ودون إذن منهم؛ لتجتث كل جثث الظلام من دروب النظرات النقية، التي توضأت مئات المرات خلال الشهر الكريم، ليتساقط مع قطرات مائها الطهور كل أدران المشاهد الشوهاء، التي اخترعتها شياطين الإنس والجن، من عري وقتل وبؤس.
والعيد ـ على أية حال خاصة أو عامةـ إذا أذن له ربه.. فإنه الطوفان الأجمل، يفيض من الأرض، ويهبط من السماء، ويموج بين البشر، ولا يفرق بين الناس، فالجميع في نظره يستحقون أن يعيشوه لحظة بلحظة، ودون محاباة لأحد على آخر.
السقيم نفسا يوم العيد أتعس من السقيم بدنا، لأن الأول لن يستجيب لكل دعواته المهموسة على أوراق الورد، كيف وبينه وبينه ألف حجاب، وأما الآخر، فقد اعتاد أن يتجاهل وخزات الألم حين يقدم له الزائرون باقات الورد، وهو الوحيد من بينهم الذي يتقن لغتها العطرية الشفافة.
فلنحتضن عيدنا بقوة الفرح، ولنأخذ من يديه هداياه الجميلة، التي اعتاد أن يتركها في قلوبنا، قبل أن ينصرف ولا يعود إلا بعد عام.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.