الخطبة الأولى
الحمد لله الذي جمع قلوب الأرحام على المحبة والوئام، وأشهد ألا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرا. أما بعد
فأنيبوا ـ عباد الله ـ إلى بارئكم، {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}.
أيها الإخوة المؤمنون
العلاقات الأخوية داخل الأسرة الواحدة من أرقى العلاقات وأقواها وأقدرها على البقاء ومواجهة المصاعب، في جو من التفاهم والوداد والتراحم والتآلف والتآخي والتناصح، وجدير بنا أن نحرص على توثيقها في زمن أصبحت كثير من العلاقات فيه مهزوزة متصدعة.
لكنها تتوتر وتتنافر في بعض الحالات، وقد تفتر، ويصبح بين الإخوة حواجز فولاذية فينقطع الاتصال، ويتراكم الجليد فتبرد المشاعر الحارة بينهم، وتختفي معاني الأخوة والتصافي بينهم، وربما ذهبت في تلك الفترة معاني الود والصفاء، وحل الصمت محل التواصل، فينفخ الشيطان في الرماد فيحيل بقايا الجمر نارًا تتأجج، وربما وصلت إلى العداء والكيد، والعمل بجد للإضرار بالآخر:
وإخوانٍ حسبتُهُمُ دروعًا فكانوها، ولكن للأعادي
وخلتُهُمُ سِهامًا صائباتٍ فكانوها، ولكن في فؤادي
وقالوا: قد صفت منا قلوبٌ لقد صدقوا، ولكن من ودادي
من هنا كان من الواجب على الوالدين المحافظةُ على سياق هذه العلاقةِ وسلامة طريقها، وهي في محضنها الأول (الأسرةِ النواة)، قبل أن تزدادَ الفوارق، وتتسعَ الـمُشغِلات، وتكبرَ المشكلات الصغيرة.
إنها عبادةٌ عظيمةٌ يجبُ أن تصانَ، فهي من الصفِّ الأول من الرحم، “الرَّحِمُ معلَّقةٌ بالعرشِ تقولُ: مَن وَصَلني وصلَه اللهُ ومَن قطعني قطعه اللهُ” رواه مسلم.
يقول طارقُ بن عبدالله المحاربي رضي الله عنه: “قدِمتُ المدينةَ، فإذا رسولُ اللَّهِ، قائمٌ علَى المنبرِ، يخطبُ النَّاسَ، وَهوَ يقولُ: يدُ المعطى العُليا، وابدأ بمن تعولُ: أمَّكَ وأباكَ، فأختَكَ وأخاكَ، ثمَّ أدناكَ أدناكَ”. وتأمل قول الله تعالى: {يوم يفر المرء من أخيه}. {إنما المؤمنون إخوة}. {وقالت لأخته قصيه}. {سنشد عضدك بأخيك}. {ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا}، وتأمل في تفسيرها ومعانيها لتعلم قدر عظمة العلاقة التي تربط بين الأخ وأخيه وأخته.
ثم اقرأ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم: “يا عمر، أما شعرتَ أن عم الرجل صنو أبيه” [مسلم]، وقوله: “من أحبَّ أن يصلَ أباه في قبره فليصل إخوان أبيه” [حسنه الألباني].
إن العلاقة بين الإخوة علاقةُ المعاضدة والمساندة، ولن تجدَ مثلهم في خُلوص الود وصدق المحبة:
أخاك أخاك، إن من لا أخًا له كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاح
حتى قال عبيد الله بن أبي بكرة: “موتُ الأخِ قاصمةُ الظهر”.
أيها الأحبة
والرابطة الأخوية لا تعتمد على رابطة الدم فقط، بل تنمو تلك العلاقات بالعدالة في التعامل، والتكاتف والتعاون في اليسر والعسر، وتوحد الأهداف أو تقاربها، وتبني كل واحد أهدافَ الآخر، والاحترام المتبادل، وعدم السماح لأحد أن يفسد العلاقة بينهم، مثل الزوج أو الزوجة أو الأصدقاء أو حتى أحد الوالدين والأبناء، وإذا قُدِّر الله لأحد الإخوان أن فاقَ إخوانَه في مال أو جاه، فإنه لا يتكبرُ عليهم، انظر ماذا قال يوسفُ وهو عزيزُ مصر: {أنا يوسف وهذا أخي}. وقد سئل عبدالله بن عمرو بن العاص: ما السؤدد؟ فقال: “اصطناعُ العشيرةِ واحتمالُ الجريرة”.
ولذلك فإن عليهم جميعا واجبَ الحفاظِ على تلك العلاقة العظيمة بعد وفاة الوالدين، فإن أكبر خطر يهدد وحدتهم هو الاختلاف على توزيع الإرث بعد وفاة أحد الوالدين أو كليهما، ولتلافي ذلك أنصح بالتالي: أن يكتب الوالدانِ وصيتَهما وفقَ الشرع الحنيف، وأن يستشيرا في ذلك أهل العلم، وألا يَخُصَّا أحدًا دون الآخر بمزية مما يتركانه من إرث، وخاصة حينما يوقِفُ الأبُ أعزَّ ما يملك على الذكور، بقصد حرمانِ الإناث، وألا يحرمَ الأبناءُ الذكورُ أخواتِهن الإناث من حقهن في الإرث وفقًا لعادة أو تسلطًا أو تهديدًا، وأن يكون لهم مجلسٌ واحدٌ لأفراحهم وأتراحهم، وإذا كان أحدُ الوالدين موجودًا فيبقى البيت الكبير مفتوحًا للجميع بالتراضي بينهم، فإذا توفي الآخر فيبادرون إلى بيعه وتوزيع ثمنه وفق التوزيع الشرعي للإرث، وأن يعدوا أخاهم الكبير في مقام والدهم، والأخت الكبرى في مقام أمهم، لتستمر ألفتُهم ولا يتفرقوا، ومن ثمرات الاجتماع فيما بينهم وضع برنامج علمي أو مهاري مشترك يضم أولادهم، ويعزز العلاقة بينهم، كل مرحلة عمرية أو جنس لوحدهم، وأن تكون لهم جلسة يومية أو أسبوعية، ويمكن حل حالة التباعد عن طريق اللقاءات عن بعد بالوسائل الحديثة، حتى تتمكن بينهم حالة من الصداقة الوثيقة:
سئل أحد السلف رحمهم الله تعالى: أيّهما أحبّ إليك صديقك أم أخوك؟ فأجاب: إنّما أحبّ أخي لأنّه صديقي!
ويبدأ الأمر من الوالدين، فعليهما أن يعرفا أن أساس العلاقة الطيبة السليمة بين الإخوان هو عدلهما بينهم في حياتهما وبعد موتهما، وألا يظهرا أي نوع من أنواع التفريق بينهم، والأصل هو التسوية حتى في المحبة، ومن وجدَ في قلبه تفاضلا بين أولاده، فلا يصرح بذلك أبدًا، ولعلَّ في قصة يوسفَ وإخوته عبرة.
وقد يكون تفضيل الآباء والأمهات لأحد أولادهم بسبب من الأسباب المؤقتة، كما قالت الأعرابية حينما سئلت: أي بنيك أحب إليك؟ قالت: صغيرهم حتى يكبر ومريضهم حتى يشفى وغائبهم حتى يعود”.
ومن أجل ذلك فعليهم أن يعرفا كيف يعدلان حتى في النظرات والقبلات، وفي الاهتمام والإكرام، وأن يحرصا على تتبع أنواع الغيرة وأسبابها بين الإخوة، ويعالجانها فورًا بإيقاف أسبابها!!
هذا النعمان بن بشير رضي الله عنهما يقول: “تَصَدَّقَ عَلَيَّ أَبِي ببَعْضِ مَالِهِ، فَقالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بنْتُ رَوَاحَةَ: لا أَرْضَى حتَّى تُشْهِدَ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَانْطَلَقَ أَبِي إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ لِيُشْهِدَهُ علَى صَدَقَتِي، فَقالَ له رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: أَفَعَلْتَ هذا بوَلَدِكَ كُلِّهِمْ؟ قالَ: لَا، قالَ: اتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْدِلُوا في أَوْلَادِكُمْ، فَرَجَعَ أَبِي، فَرَدَّ تِلكَ الصَّدَقَةَ”. [رواه مسلم] وفي رواية: قالَ فأشْهِد على هذا غيري، قالَ: “أليسَ يسرُّكَ أن يَكونوا لَكَ في البِرِّ سواءً قالَ بلى قالَ فلا إذًا” [صحيح ابن ماجه]، فهل بعد هذا الحديث مقال؟! توبوا إلى الله واستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الأخرى:
الحمد الله الذي يجمع القلوب على محبته، وأشهد ألا إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا أما بعد
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا بأن”من البر إظهارَ حسن علاقتك بإخوتك، والسكوت عما قد يؤلمك منهم، والتماس المعاذير لهم، وإخفاء مساوئهم أمام والديك”. واحذر من الهجران، فإن من أسوأ ما يقع من جراء عدم الوفاق بين الإخوة أنهم لا يجتمعون في مكان واحد مع والديهم، وهذا مؤلم جدا للوالدين.
وإذا جالستهم فأحسن الحوار واللين والتلطف معهم، وافتخر بهم، وتذكر معهم المواقف الجميلة النبيلة اللطيفة.
كما أن على الآباء والأمهات أن يعدلا في توزيع المسؤوليات على أولادهم، وألا يشيدا بأصحاب الهدايا السنوية، ويتناسيان من يقوم بالخدمة اليومية!! وليعلما بأن علاقة الآباء والأمهات بإخوانهم وأخواتهم نموذج للأولاد في علاقاتهم أيضا غالبا، فإنهم سوف يكررون ما رأوا وما سمعوا.
وعلى الآباء والأمهات ـ أيضًا ـ أن يدونوا كل ما بينهما وبين أولادهم من معاملات تجارية، أو مبالغ يأخذونها مقابل عمل معهم، أو قروض، حتى لا تكون محل خلاف بين الإخوان في حياتهم أو بعد وفاتهم، وأهمها: إذا كانت ممتلكات مشتركة بينهم.
وإذا أخذ أحدهم الولاية على والده لسبب ما مثل إصابته بالزهايمر أو غيره فليدون ذلك ويوثقه رسميا، وليتق الله ربه فيما ولي من أمر والده ووالدته وإخوانه وأخواته، فإن الله سائل كل راع عن رعيته حفظ أم ضيع.
والإحسان إلى الأخوات أعظم وأجل؛ ففي الحديث الصحيح عن رسولنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ” مَن عالَ ابنتينِ أو ثلاثًا، أو أختينِ أو ثلاثًا حتَّى يَبِنَّ، أو يَموتَ عنهنَّ؛ كنتُ أنا وهوَ في الجنَّةِ كَهاتينِ. وأشار بأُصْبُعيهِ السبَّابةَ والتي تلِيهَا”، أراك تبحث عن هذه الصحبة في كفالة يتيم لا تعرفه، والفرصة في بيتك مع أختك وابنتك!!
في سيرة داعية الجنوب الشيخ عبدالله القرعاوي رحمه الله تعالى: “ما حدَّثَ به ابنه الشيخ محمد القرعاوي حفظه الله يقول: “لم يكن لوالدي رحمه الله غيرُ شقيقته الكبرى، وما رأيت برا وإحسانا وشفقة مثل ما كان بينهما، فإذا قدم من سفر وكان سفره يطول، احتضن أخته وبكيا طويلا، وكان يعدها بعد وفاة أمه أما له، ولا يناديها إلا يا أمي، وهي أيضا لا تناديه إلا يا والدي”.
إنما الأخت ككنزٍ عن كنوز الكون يغني
كلما أودعتُ في قلبي هواها قال : زدني ..!
لستُ أدعوها بـ(أُختي) هي أمٌ لم تلدْني …!!
حين تفرح بقلب أخيك، وتذرف عينه دمعتك، حينها تحس بمعنى الأخوة، طعما لا يذوقه إلا ذو حظ عظيم. أسأل الله تعالى أن يؤلف بين قلوبنا وقلوب إخواننا وأخواتنا، إنه سميع مجيب.
اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين وانصر إخواننا المجاهدين في كل مكان وفي الحد الجنوبي خصوصا، وألف ذات بينهم، وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلما لأوليائك حربا على أعدائك. اللهم فك أسرى المسلمين، واقض الدين عن مدينيهم، واهد ضالهم.
اللهم وفق خادم الحرمين الشريفين وولي عهده لكل ما فيه الخير والأمان للعباد والبلاد، وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة، إنك سميع الدعاء.
اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطاهرين، وصحبه أجمعين، وعنا معهم برحمتك وفضلك ومنك يا أكرم الأكرمين.
19/10/1443هـ