الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا عباد الله أوصيكم ونفسي المقصرة بتقوى الله وطاعته؛ امتثالاً لأمر الله -جل وعلا- في محكم التنزيل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
أيها الأحبة في الله: الحب تلك العاطفة الدافقة بأنهار الوجدان، الهادئة حتى السكون، العاصفة حتى البركان، تموج بها قلوب الناس أشكالاً وألوانًا، وتلعب بها رياح الأهواء الهوجُ أسرابًا ووحدانًا، بينما تتربع في قلوب المؤمنين رياضًا من الجنات، وتتناغم ألحانًا من الثبات، وتفيض تعبدًا ورقًّا للواحد الديان.
فالمحبوب الأعظم هو الله الخالق الجليل، وأحب إنسان في الوجود هو خليله صاحب اللواء المعقود، والحوض المورود محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأعز إنسانين بعده هما الوالدان من كانا سببين في الوجود، ومن تفضلا بالتربية والتوجيه، ثم ماذا بعد (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الأنفال: 75].
ثم ماذا؟ (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [التوبة: 71]، وأيّ حب بعد ذلك فإنه ناقص؛ إذ العلاقات بين الآدميين بُنيت على المصالح – في الغالب – وإن تنوعت صور الجمال أو تجملت تلك الصور، بل كم حب بدا رائع الإقبال، لم يدبر إلا بالخزي والعار، أجارنا الله من خزي الدنيا والآخرة.
فيا تيار الحب توقف.. فإن فؤادي *** لا يتطلع إلا إلى أزكاك وأتقاك
أشواقنا نحو الحجاز تطلعت *** كحنين مغترب إلى الأوطان
ماذا هناك؟ من ذا يطل من وراء خمسة عشر قرنًا من الزمان؟ من صاحب هذا الوجهِ المتوردِ بالنور، المتطلعِ إلى إنقاذ الوجود من تصحُّرِ الجاهلية المسعور؟
لما أطلَّ محمد زكت الربى *** واخضر في البستان كل هشيم
نعم مع البعثة كانت الحياة، ومع الوحي أعلن الظمأ بداية السفر عن وجه جزيرة الإسلام، بل عن تضاريس البسيطة في كل مكان، ولو بعد حين.
ويا للبشريات تمهد بالمولد الشريف لمولد البعثة، لقد هلك الظلم بهلاك الطاغوت أبرهةَ وفيلتِه، ليس بسيف قرشي بتار، ولكن..
وقاية الله أغنت عن مضاعفة *** من الدروع وعن عال من الأطم
ويا للبشريات تحف بمولد أعظم مولود -صلى الله عليه وسلم-.. لقد اجتمع الجاهليون على نصرة المظلوم، ورد الفضول إلى أهلها، وانتصار للعدالة المقهورة بين رؤوس القوم وجبابرتهم.
محمدٌ.. ومن أحبُّ إذا لم أحبَّ محمدًا -صلى الله عليه وسلم-؟ وأي سعادةٍ أرجو إذا لم تحبَّ كل خلية من خلاياي محمدًا -صلى الله عليه وسلم-؟ وأي فوز يوازي فوز من يحب محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، وهو القائل: “أنت مع من أحببت”، وإنما ينفع العبدَ الحبُّ لله لما يحبه الله من خلقه كالأنبياء والصالحين؛ لكون حبهم يقرب إلى الله ومحبته، وهؤلاء هم الذين يستحقون محبة الله لهم.
ويبقى المحبوب الأعظم هو الله (وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) [البقرة: 165]؛ لأن من أجله كان ذلك الحب، فلولا تعلقُّ المحبوبِ الآخرِ به لما أحبه المؤمن، فلا حبَّ إذن يوازي حبه تعالى.
وحب النبي -صلى الله عليه وسلم- من حبه –تعالى-، ولذلك بلغ بالقوم من حبه ما إذا استعرضنا حبنا له -صلى الله عليه وسلم- لطأطأنا الرؤوس خجلاً، وذرينا الدموع حسرة وندمًا، فهلا أعرتني يا موفق سمعك هنيهات، وقلبك دقائق معدودات، فلعل دمعاتك ترحل في سفن أماقي القوم فتفوز..
قال مالك عن أيوب السختياني -رحمه الله-: “كان إذا ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- بكى حتى أرحمه”، وكان مالك -رحمه الله- إذا ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- يتغير لونه وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه، فقيل له في ذلك، فقال: “لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم عليَّ ما ترون”.
نَزَفَ البكاءُ دموعَ عينِك *** فاستعرْ عينا لغيرك دمعُها مدرار
فيا شوقاه إلى طلعة كالشمس أضاء الله بها الخافقين، وهدانا بها الصراط المستقيم.
اللهم احشرنا تحت لوائه، وشفعه فينا، واسقنا من كفه الشريفة شربة لا نظمأ بعدها أبدًا، وأسكنا معه في عليين، على سرر متقابلين… ولكن هل يكفي هذا التشوق؟
لقد قام في قلوبهم ما قصرت هممنا عن أن تقوم بأقله، وأحيوا في شعورهم ما توارت مشاعرنا دونه.
أيها المحبون: لقد تباعد بنا الزمن وكثرت الفتن، واشتغل الأكثرون بالحطام من المهن، فلنقترب من سنة الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فتلك السعادة والحياة، لنقترب حتى لا تصبح العبادات عادات، يُنسى فيها احتسابُ الأجر من الله –تعالى-، وتُتْرَكُ متابعتُه -صلى الله عليه وسلم- وتوقيرُه، ألا فلنسأل عن الواجبات لنعوضَها، وعن السنن لنحييَها، وعن البدعة لنحاربَها.
هل تصلي كما صلى حبيبك -صلى الله عليه وسلم-، وهل تحجّ كما حجَّ -صلى الله عليه وسلم-، وهل تأكل كما أكل، وهل تشرب كما شرب، وهل تجاهد كما جاهد -صلى الله عليه وسلم-؟
أو ما أعجب قومًا تغافلوا عن سنته -صلى الله عليه وسلم-، ونشطوا في البدعة من أجله كما يدعون، قال: لا تطروني فأطروه، ومنع الأعياد غير عيدي الإسلام فاتخذوا مولده عيدًا، ونهاهم عن الحلف بغير الله فحلفوا به، ولو راجع أكثرهم حياتهم لوجدوا فيها اختلافًا كثيرًا عن سنته -صلى الله عليه وسلم-.
لعمر الله لا يستقيم قلب العبد حقيقة حتى يعظم السنة ويحتاط لها، ويعمل بها، ويبغض البدعة ويمقتها، ويتمنى الهداية لمن وقع في شراكها. لقد قال الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم-: “فمن رغب عن سنتي فليس مني” (متفق عليه).
(وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران: 144].
عباد الله توبوا إلى الله واستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله.. واعلموا أن حب النبي -صلى الله عليه وسلم- ليس هوى متبعًا، ولا دعوى يتشدق بها المادحون المتملقون، ولكنه عبادة عظيمة يتشرف بها عباد الله، ويتزينون بها ظاهرًا وباطنًا.
وإن من بوادر الجفاء معه -صلى الله عليه وسلم-: المكابرة في قبول الأحاديث الصحيحة بأية حجة كانت، ولاسيما ونحن نعيش عصر أبهة العقول، وغطرسة المحسوس:
دعوا كلَّ قولٍ عند قولِ محمدٍ *** فما آمن في دينه كمخاطر
ومن الجفاء معه -صلى الله عليه وسلم- العدول عن سيرته وسنته إلى سير عظماء البشر وأقوالهم في شتى ضروب الحياة من فكر وسياسة وأدب، وأخلاق وفلسفة وسلوك؛ حتى بلغت الفتنة ببعض القوم أن يقدم أقوال الناس ولو كانوا كفارًا على أقواله وأفعاله، كل ذلك افتتانًا بمنجزاتهم المحدودة، ونسي هؤلاء أن الله قد أحيا به القلوب، ووحد به الأرض، وأمن به السبل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [الأنفال: 24].
وإنك لتعجب من الكفار حين أراد أحد مفكريهم أن يصنّف أعظم مئة من البشر جعل محمدًا -صلى الله عليه وسلم- على رأسهم، بينما ينهزم بعض المسلمين فيقدم عليه غيره.
أخوك عيسى دعا ميتًا فقام له *** وأنت أحييت أجيالاً من العدم
ومن الجفاء أيضًا نزع هيبة الكلام حين الحديث عن سيرته، أو اغتياب أهل الصلاح المقتدين به في سنته، والاستهزاء بهم بسبب تمسكهم بأقواله وأفعاله كإطلاق اللحى وتقصير الثياب، ولعلهم ممن قال فيهم الرسول -صلى الله عليه وسلم-: “لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك” (رواه البخاري).
ويقول الجنيد بن محمد: “الطرق إلى الله –تعالى- كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول -صلى الله عليه وسلم-، واتبع سنته ولزم طريقته، فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه، كما قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 21]. وعجب من مثل هؤلاء كيف يعيبون على المتأسي بنبيهم -صلى الله عليه وسلم-، وهم المقصرون في ذلك:
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم من اللوم *** أو سدوا المكان الذي سدوا
ومن الجفاء أيضًا هجران السنن المكانية، فهناك من يحج كل عام، ويعتمر أكثر من مرة، ومع ذلك فهو لا يذهب إلى المدينة المنورة، ولا يزور مسجدها مع ما في الصلاة فيه من فضل معلوم، وما يوصل إليه قصد مسجدها من الصلاة في الروضة الشريفة، وزيارة قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- والسلام عليه.
وإذا زارها لم يحرص على السنن المكانية فيها، كزيارة مسجد قباء والصلاة فيه، وزيارة قبور الصحابة والسلام عليهم، تأسيًا بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: “كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها؛ فإنها تذكر الآخرة” (رواه الترمذي وصححه الألباني).
كل ذلك دون توسل أو دعاء لغير الله –تعالى- أو نحو ذلك من بدع ليس لها سلطان مبين.
وإن مواطنَ عُمِرَتْ بالوحي والتنزيل، وترددَ بها جبريلُ وميكائيل، وعرجت منها الملائكةُ والروح، وضجت عرصاتُها بالتقديس والتسبيح، واشتملت تربتُها على جسدِ سيدِ البشرِ -صلى الله عليه وسلم-، وانتشر عنها من دين الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- مدارسُ وآيات، ومساجدُ وصلوات، ومشاهدُ الفضائل والخيرات، ومعاهدُ البراهين والمعجزات، ومواقفُ سيد المرسلين، ومتبوأ خاتم النبيين -صلى الله عليه وسلم-، لجدير بتلك المواطن أن يعتنى بها، وأن تحل في القلوب وتخالطَ بشاشتَها، وأن يكون في زيارتها ما يحدو إلى اتباعِ السنةِ وتعظيمِ نبي الأمة -صلى الله عليه وسلم-.
ومن الجفاء أيضًا: ترك الصلاة عليه إذا ذُكر، وهو القائل: “رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليّ” (رواه الترمذي وصححه الألباني).
وهو البخيل الذي فوَّت على نفسه أجر عشر صلوات إلهية، كلما جفا قلبه ولسانه عن هذه العبادة، ولاسيما في مثل هذا اليوم العظيم يوم الجمعة، يقول الله جل في علاه: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطاهرين، وصحبه أجمعين، وعنا معهم برحمتك وفضلك ومنك يا أكرم الأكرمين، وارض اللهم عن آله الطاهرين، وصحابته أجمعين، وعنا معهم برحمتك إلى يوم الدين.
اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين وانصر إخواننا المجاهدين وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة التي تذكرهم إذا نسوا وتعينهم إذا ذكروا، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك.
اللهم فك أسر المأسورين، واقض الدين عن المدينين، واهد ضال المسلمين، وهيئ لأمة الإسلام أمرًا رشدًا يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر.
اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.