(الطعام الأسري) أعلم أن هذا المصطلح جديد، ولا أدعي أنه من اختراعي، ولكنه من اختراع سكان الأرض في هذا الزمن المتلون، فما كان الناس ـ سابقا ـ في حاجة إلى أن يطلقوا على الوجبات الثلاث العادية التي يتناولونها يوميا مع أفراد أسرهم اسما محددا، ولكننا اضطررنا إلى ذلك في عصرنا هذا؛ الذي أصبح فيه الأكل مع الأسرة يمثل هاجسا مزعجا لربة المنزل، التي تفتقد أبناءها على (السفرة) كلما تقدموا نحو الحادية عشرة من العمر، وكلما تقدموا في مراحل المراهقة الثلاث كلما ابتعدوا أكثر عن طاولة الطعام في المنزل، واقتربوا أكثر من طاولات الطعام في المطاعم السريعة والبطيئة، أو نوافذها المغرية!!
وبات من المتفق عليه إسهام هذه المطاعم في تدمير الصحة، ونشر السمنة التي ناهزت 70% في بعض الدول العربية، وبخاصة الأطفال والنساء، بل وفي نشر بعض الأمراض، وتعزيز وجود بذورها في خلايا إنسان العصر البائس، المحاصر بكل الإغراءات، حتى إنه ليقف عاجزا أمام وجبة، يعرف ضررها، ولكنه لا يستطيع الامتناع عنها.
وفي ظل هذا الغياب من الأبناء عن مائدة المنزل، فإن معاني عديدة تغيب عن مستقبلهم، حيث يقل الحضور التربوي، والتوجيه الأبوي، والرابط الحميمي، لتنشط في الخارج روابط غير مأمونة، تعوض الحنان الآمن بالعلاقة المبتزة، والتعزيز الأخلاقي بفتح الخيارات كلها أمام المراهق، بلا استثناء!!
لقد أكدت دراسة علمية قامت بها جامعة إلينوى الأمريكية أن جلوس المراهقين لتناول الطعام مع العائلة يساعد على التخلص من اضطرابات الهضم، وفقدان الشهية، والشره المرضى، بالإضافة إلى ذلك كله، فإن تناول المراهقين للطعام على مائدة مستديرة يجعلهم أقل عرضة للتدخين.
وذكرت الدراسة أنه بعد مراجعة 17 دراسة تدور حول أنماط التغذية المختلفة، تتضمن حوالى 200 ألف طفل ومراهق، فإن المراهقين الذين يتناولون ما لا يقل عن خمس وجبات أسبوعياً مع أسرهم، أقل عرضة لاضطرابات الطعام بنسبة 35% من غيرهم، بالإضافة إلى أن 24% منهم يحافظون على تناول الأطعمة الصحية.
وأشارت صحيفة (ديلى ميل) البريطانية التى نشرت نتائج الدراسة؛ أن الآباء الذين يستطيعون جمع شمل الأسرة على الأقل ثلاث مرات في الأسبوع على الطعام، فإنهم بذلك يوفرون الحماية لأولادهم من الأمراض المرتبطة بالطعام، أقول فكيف لو نجح هؤلاء الآباء والأمهات في جمع أولادهم وجبتين أو ثلاث في اليوم الواحد؟
عن هذه الدراسات تؤكد أن تناول الوجبات العائلية في مرحلة الشباب، يساعد 12% من الشباب على فقدان الوزن أقل من الذين لا يتناولون الوجبات مع عائلاتهم، وفي هذا وقاية مبكرة من زيادة الوزن، وتفجر الجسد بما لا يستطيع بعده أن يوقف مدَّه، فالمعدة تمددت، والجوع يفغر فاه بقدر حجمها، والترهل يصدق المتشدق بدعوى الرجيم ويكذبه!!
إن الباحثين في المجال الطبي يلتقون مع الباحثين في مجال الأسرة على أن الأسر التي تتناول الطعام في وقت واحد وفي مكان واحد، يكونون أكثر ارتباطاً، وأكثر تحدثاً عن موضوعات كثيرة؛ تجعلهم أكثر ألفة، بل إنهم يتحدثون ـ أيضا ـ عن النظام الغذائي السيء، وعادات الأكل الخطيرة، وهي من عادة الآباء والأجداد في تناقل الإرث المعلوماتي حول كل شيء حياتي، ومنه التناصح في العادات الغذائية، حيث لا تخلو جلسة عائلية على الطعام من إسداء النصح في أمر له علاقة بتخير الطعام الأفضل.
ويكتنف هذه الجلسات شعور أسري شفاف يتضوع عودا وعنبرا؛ حين يضم الوالدان أولادهم إلى كنفهم، في إطار حميمي عذب، تضمحل فيه كثير من الخلافات الزوجية المتراكمة، وتنسى فيه ضروب من المشاكسات والمشاجرات التي تدور رحاها عادة بين الأطفال طوال اليوم، ويرفرف جو من الصفاء النفسي وهذا يعطي هذا، وهذا يخص ذاك بقطعة لذيذة.
إن هذه الدقائق الرائعة تعد أنموذجا، يتشكل أمام أعيننا ؛ ليرينا كيف يمكن أن تكون الحياة الأسرية إذا خلت من المنغصات ، وصفت من المكدرات المعيشية ، وكان اجتماعها في ارتياح نفسي بالغ، إن الأسرة التي تصنع ذلك هي أسرة ناجحة بكل المقاييس في تأسيس الصحة النفسية لكل أفرادها، والتي هي بريد الصحة البدنية بلا ريب.
إن هذه الصورة تكشف عن خطورة العواطف الأسرية المهضومة في كثير من البيوتات بسبب انشغال الوالدين عن أولادهما طوال الأسبوع، فإذا كنا ننعى تواجد المراهقين على موائد العائلة، فإن بعض الأسر تنعى تواجد العائل نفسه، الذي بلغ الأربعين والخمسين وربما الستين أيضا، حيث أصبحت الاستراحات منافسا قويا لكيان الأسرة، حيث الحلويات الشعبية والحديثة، والموائد الدسمة التي لا تتوقف عن ضخ سمومها إلى الجسم، كما تسهم في البعد العكسي عن الأسرة، ولنتصور تلك الملكة (ربة المنزل) وهي تفقد زوجها في الاستراحة وأبناءها في المطاعم، وربما بناتها وهن يخضن معركة النت الخاسرة غالبا!! لقد أدت هذه الفوضى إلى أزمة حقيقية قد تنتهي بانسحاب (الأم) عن مكانتها إلى خط خلفي، تنهي فيه مهمة الدفاع والكفاح في سبيل إعادة التماسك إلى الأسرة، وتقلب فيه طاولة الطعام العائلية، وتحول المطبخ إلى مطعم، حيث تصنع أو يصنع كل فرد من أفراد الأسرة ما يشاء متى شاء، وتقتني هي ـ أيضا ـ جهازا إليكترونيا (ذكيا) تختبئ فيه؛ حتى
الرسول صلى الله عليه وسلم يشير إلى أسلوب طريف من أساليب التودد مع الزوجة حينما يقول : (( حتى اللقمة يضعها في في امرأته له فيها أجر )) ، ويؤكد علماء النفس المعاصرين على القيمة النفسية الكبرى لمثل هذه اللقمة ، وينصحون بوضعها في أفواه جميع الأولاد بكل حنان وعاطفة جياشة .
ومما يفسد الموائد العائلية أن تنعقد خلال مشاهدة التلفاز ، فإن البرنامج المعروض إذا كان شيقا سوف يسرق أنظار الجميع إليه ، فيختل الهدف الذي من أجله يؤكد التربويون على الحرص على الأخذ به ، وهو إنعاش الجو الحميمي من خلال وجبة الطعام بالحديث الودي، والطرائف والنكات ، وإثارة اهتمام بعضهم بالآخر باقتراح أكلة معينة ، أو تذوق لقمة بعينها ، وعبارات الحب والمودة التي تنبعث بشكل عفوي من جميع أفراد الأسرة تجاه بعضها.
أظهرت دراسة طبية كندية أن مشاهدة الأطفال للتلفاز أثناء تناول الطعام قد تؤدي إلى زيادة أوزانههم، واكتشف هارفي أندرسون خبير التغذية بجامعة تورونتو: أن أجسام الأطفال الذين تناولوا الغداء وهم يشاهدون التلفزيون استوعبت (228) سعرا حراريا إضافيا بالمقارنة بآخرين تناولوا غذاءهم بلا مشاهدة للتلفاز.
وأضاف أن تناول الطعام أثناء مشاهدة التلفاز يعطل قدرتنا على إدراك متى نتوقف عن الأكل؟!!
وكشف استطلاع أجرته مؤسسة نسلة، وطال نحو (1023) شخصا في فرنسا عن أن (3) أسر فرنسية من بين كل (10) يرون أن أطفالهم يستخدمون الهاتف المحمول وجهاز الكمبيوتر أثناء تناولهم وجبة الغداء أو العشاء مع الأسرة، وأن هذا يسبب مشكلات بين أفراد الأسرة بنسبة %72 من الحالات.
وأشارت نتائج الاستطلاع إلى أن (9) أشخاص من (10) يردُّون على الهاتف أثناء تناول الغداء، وقد أثبتت الدراسات العلمية أن مثل هذه الظواهر، التحدث بالتلفون أو مشاهدة التلفزيون أثناء تناول الطعام سبب من أسباب البدانة بنسبة تتراوح مابين %14 إلى %20.
وقد كثرت النصوص الشرعية التي تشير إلى بركة الطعام إذا اجتمعت عليه الأيدي؛ فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: “يا رسول الله، إنا نأكل ولا نشبع، قال: تجتمعون على طعامكم أو تفترقون؟ قالوا: نتفرق، قال: اجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله تعالى يبارك لكم فيه” صحيح الإسناد أو حسن أو ما قاربهما.
وهي إشارة نبوية إلى قيمة الاجتماع على الطعام في التقليل من الأكل، ووفرة البركة فيه.
وتحكي عائشة رضي الله عنها وتقول: “زارتنا سودة يوما فجلس رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيني وبينها؛ إحدى رجليه في حجري، والأخرى في حجرها، فعملت له حريرة [طبخة]، فقلت: كُلي، فأبت، فقلت: تأكلين أو لألطخنَّ وجهك، فأبت، فأخذتُ من القصعة شيئا فلطختُ به وجهها، فضحك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجله من حجرها لتستقيد مني، وقال لها: “لطخي وجهها” فأخذت من الصفحة شيئا فلطخت به وجهي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك” حديث حسن رواه أبو يعلى. لوحة نبوية كريمة تضجُّ بالحياة الحلوة الجميلة، التي تتحول فيها الوجبة العائلية إلى فرصة للمرح والضحك والألفة.
إن الطعام العائلي في خطر جسيم، يصل إلى فقدانه تماما، إذا لم يتم نشر التوعية بأهميته الصحية والنفسية والتربوية والاجتماعية؛ فإن علماء الاجتماع يقولون: إن من الأمور التي لها أثر على الأخلاق أنواع الطعام والشراب. فالعائلة الواحدة لما تجتمع على طعام واحد تتفق أخلاقها.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.