(( تعبت من هذا الإنسان )) ، انفجرت بين شفتيه ، وأطلق زفرة حارة كادت تحرقني.
فقلت : ولم َ؟
فأجاب : عجزت أن أرضيه ، فإني لم أزل أزف إليه سحائب معروفي تترا ، وهو يجبهني بجحوده لا يألو لذلك جهدا ، أبحث عما أثبت له به أني أكن له الود ، وأحب له الخير ، وأتمنى له السعادة ، وهو لا يلقي لذلك بالا .
أطرقت قليلا ثم قلت : هذا كله طبيعي .
التفت إلي مذهولا .. ثم قال : كأنك تؤيده على فعلته ، أو كأنك تخطئني وتصوبه ؟
فأجبت على الفور : أجل .. أنت مخطئ ، فليس كل الناس يستحقون منك الإحسان ، ألم تسمع قول الحكيم : ( أصل العداوات وضع المعروف في غير محله ) .
قال صاحبي ومسحة الحزن تتسع على محياه : أما هذه فأعترف لك بأني لا أجيدها ، فقد كنت أظن أن أحدنا يجب أن يكون كالغيث لا يسأل على أي أرض وقع .
فقلت : ألم تر أن الغيث إذا وقع على أرض طيبة نفع الله به ، فأنبت الزرع ، وأحيا الأرض ، أو حبس الماء لينتفع به الناس في مصالحهم ، أما إذا وقع على أرض سبخة فربما نقع فيها الماء فأصبحت مرتعا للأمراض .
قال : صدقت . ( والتهبت حدقتا عينيه ) .
فاسترسلتُ : وقد أعجبني بيت يقول :
كل العداوات قد ترجى شفاعتها إلا عداوة من عاداك من حسد
قال صاحبي : ( وقد تكشفت له وجوه كانت ملثمة الوجنات عن بصيرته ) : والله لو أنك تعلم ما أهرقت عليه من أياد لأذهلك الأمر ، حتى ليصدق في وفيه قول أحد شعرائنا : (( ماجت بحارك من مائي ومن عرقي )) ، ولكنك اليوم كشفت لي حقيقة الأمر ، وإن الشعور الذي يمتلك أحاسيسي الآن هو الشفقة على الحساد ، فهم في هم جسيم ، وسمعة رديئة ، وشغل شاغل عن معالي الأمور ، وقد جبلني ربي على حب الخير للناس ، فأسأل الله لهم العافية ، ولي ولأمثالي منهم السلامة .
فقلت : صدقت ، فالحاسد لا يزال في غم وكدر ، يتعذب بكل نعمة يراها لمحسوده ، ويتألم بكل بلية تنصرف عنه ، ولكني أراك حريصا على إرضاء من لا يمكن إرضاءه البتة ، فالحاسد لا يرضيه إلا ذهاب نعمة المحسود . فلا سبيل إلى ذهاب عداوته إلا إذا شفي من مرض الحسد .
فقال : وهل يمكن أن يتخلص الحاسد من مرضه هذا ؟
فأجبت : نعم ، بتربية نفسه على الرضا بقسمة النعم الإلهية بين الناس : { أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله } ، والحرص على سلامة القلب على الآخرين ، ثم بالعلم بأن الحسد ضار للحاسد لا محالة في دينه ودنياه ، وقد لا يضر المحسود أبدا بإذن الله .
ثم قلت له : اسمح لي أن أقول لك .. أنت تستحق الحسد .
فصاح بي ، وكأنني دعوت إليه زوبعة الكدر من جديد : ولماذا ؟
لأنك تتقلب في نعم الله ، وكل ذي نعمة محسود . ألم تسمع قول الشاعر :
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه فالقوم أعداء لـه وخصوم
كضرائر الحسناء قلن لوجهها حسدا وبغيا : إنه لدمـيم
وقد روي عن رسولنا حديث يقول : (( إن لنعم الله أعداء )) فقيل : ومن هم ؟ فقال : (( الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله )) .
هدأت أنفاسه ، ثم تتمتم يقول : عيني على كل حسود ومحسود .
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.