بلغ عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ أن ابنا له اشترى خاتما بألف درهم ، فكتب إليه : بلغني أنك اشتريت فصا بألف درهم ، فإذا أتاك كتابي ، فبع الخاتم وأشبع به ألف بطن ، واتخذ خاتما بدرهمين ، واجعل فصه حديدا صينيا ، واكتب عليه : (( رحم الله من عرف قدر نفسه )) .
أدهشني هذا النص ، أربكني ، جعلني أتلفت يمنة ويسرة ثم أطأطيء رأسي .. لا أدري لماذا ؟
فإن هذا الموقف يتلاءم تماما مع سيرة عمر ، وليس غريبا عليه ، فلماذا وخزني .. أيقظ شيئا ما في داخلي .. ملأ قلبي مهابة وحيرة .. لماذا ؟!
بعد تأمل .. رأيت أن عمر لم يكسر شهوة ابنه للتعالي والتفاخر فقط ، بحجة أنه مقتدر على الحصول على ما أراد ، وأنه ابن خليفة وله الحق أن يتخذ من مظاهر اللباس الفاخر ما شاء ، بل إن أمير المؤمنين أراد أن يجعل من هذا الموقف درسا متجددا في نفس ولده أبدا ، كلما طمحت لنوع من التفاخر على الناس ، فذكره ببطون تجوع ولا تجد ما يشبعها ، وفي كفه فص صغير يستطيع به أن يسد رمقها، ويشبع جوعتها ، ليس ذلك فقط ، بل أراد أن يلوي عنقه ، ويخضع خده الذي صعره أمام من يعلمونه التواضع والمسكنة ، فذكره بالمساكين .
يذكر علماء السلوك أن من أبرز أسباب الغرور إهمال التربية الأسرية لهذه القضية التي تبدو عادية ، فقد تظهر مظاهر الغرور على الوالدين ، فيكسبها الأطفال وتنمو معهم ، وقد يكونان متواضعين ، ولكن يفشلان في تربية خلق التواضع في أولادهم ، بسبب منحهم كل رغباتهم ، ولا سيما ما يظهر فيها أثر الرفاهية والكبر ، مثل اللباس الفاخر ، والمركب الفاره ، والبذخ في الأكل والشرب .
ينشو الصغير على ما كان والده إن الأصول عليها ينبت الشجر
وتأمل موقف محمد بن واسع عندما رأى ابنا له يمشي مشية منكرة فقال : تدري بكم اشتريت أمك؟ بثلاثمئة درهم ، وأبوك لا كثر الله في المسلمين مثله ، وأنت تمشي هذه المشية ؟
رحمك الله يا بن واسع وكثر الله من مثلك في أمة الإسلام ، إنها التربية الأسرية الواعية لكل حركات أولادها ، لقد قلل من قدر زوجته ونفسه ؛ ليصغر ولده في عين نفسه، ويقطع عليه سبيل الكبر والغرور؛ فأين ما يعيشه كثير من شبابنا وشاباتنا من تغطرس وتفاخر بسياراتهم وهيئاتهم ، حتى أصبح لغرورهم ضرائب باهضة على الوالدين الضعيفين أمام سطوة مراهقتهم ، فالجوال أصبح في أيدي الأطفال ، والسيارة الجديدة باتت لعبة المراهقين وإن أزهقت أرواح الناس ، والثياب اللامعة تكنس الشوارع وتشعل روح الخيلاء ، والساعة الألفية الثمن تغرس الشعور السيء بالتميز على الآخرين .. إلى آخر القائمة التي ترهق ميزانية الأسرة وقلبي الوالدين قبلها ، وكم كانت هذه المظاهر سببا في انحراف الشباب، وتجمع الشلل الفاسدة حولهم طمعا فيما في أيديهم ، فيخسر الوالدان أولادهم أكبر خسارة .
ولم أجد تجمعا لا بد منه ، وتصعب السيطرة على نوعيته كالمدرسة ، ففي المدرسة يجتمع الأقران ، ويكثر التفاخر ، ويتبادل الطلاب والطالبات الخبرات في توافه الكماليات ، ويبدأ بعد ذلك الضغط الشديد على الوالدين لتلبية الرغبات الجامحة ، ويعلو صوت الولد : أيعقل أن يكون عند جميع زملائي كذا وكذا وأنا ولد فلان بن فلان ليس عندي ، وتصيح الفتاة في وجه أسرتها : إن الطالبات كثيرا ما يعرضنني للإهانة والتنقص وهن يعرضن علي ألوان الزينة والجماليات التي يشترينها من السوق ، بينما أنا محرومة منها ، وربما تتبع ذلك بالبكاء ، وهي شكوى ظالمة ، فهي لا تطالب بما تحتاجه ، بل بما تفاخر به . ولا ينجو من ذلك المعلمات بالذات اللاتي ينفقن أكثر من ثلثي الراتب في توافه المشتريات ، كما ذكرت إحدى الإحصاءات .
إن الغرور المدمر للشخصية ، المقعد لها عن كل فضيلة ، قد يكتسب حتى ممن قد يبدو عليهم صلاح في ظاهرهم ، ولكن نفوسهم مسكونة به ، فالغرور طبيعة تتغلغل في داخل النفس ، وتظهر عليها عوارضها ، وليس لها وطن ، ولا جواز سفر ، ولا حدود . فاحذر أن يغزوك .. أو تؤرثه لولدك .
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.