الصورة ـ كما يقول الدكتور صلاح فضل (( هي العنصر الجوهري في لغة الشعر )) ، وهي أداة الشاعر الأمثل ؛ يبني بها أعلى مراتب الشعر كما يقول ديفد ديتشس .
وتَتَشَكَّل الصورة الفنية بفعل ( الخيال ) ؛ تلك القوة الخفية التي تعمل داخل النفس ، متأثرة بكل العوامل السابقة والآنية ، المتوارثة والمكتسبة ؛ دون تحديد . متخذة الواقع الحسي الذي وقع تحت نظر الأديب أو علمه ، مادةً تُفَتِّتُها ثم تعيد صياغتها وتشكيلها ، حسب التجربة والحالة النفسية التي تكتنف الأديب زمن الإفراغ الفني . مستعينة بما استوعبته من نتاج المبدعين ، أو (( بما تضيفه ، أو تستحدثه من علاقات وإشارات ورموز)) كما يقول الدكتور حسني عبد الجليل ، ويوجه هذه القوة في ساعة التعبير الفني المنقدح من الذات ، إحساس واحد ، (( يهيمن على عدة صور أو أحاسيس في القصيدة ، فيحقق الوحدة فيما بينها ، بطريقة أشبه بالصهر )) ؛ كما يقول كولردج . ولن يستطيع الخيال أن يبلغ هذا المستوى ، إلا عندما يكون الشاعر (( في أفضل حالة ، حين يكتب لا عن نزوة أو لغرض الجدل ، أو طبقا لمتطلبات العرف ـ أي عندما يمتلك نفسه تماما )) كما يقول ر. أ. سكوت جيمس في صناعة الأدب ؛ لأن الصورة (( جزء من التجربة ، يجب أن تتآزر مع الأجزاء الأخرى في نقل التجربة ، نقلا صادقا فنيا وواقعيا )) كما يقول الدكتور محمد غنيمي هلال . وتشارك ـ كذلك ـ (( في تنمية العمل الفني تنمية داخلية )) كما يقول الدكتور مصطفى ناصف .
وأشير إلى أن بعض الدراسات النقدية الحديثة للصورة الشعرية ، تميل إلى غض الطرف عن التقسيم البلاغي للصورة البيانية ( التشبيه والاستعارة والمجاز والكناية ) ، وتنحو إلى التعامل المباشر مع الصورة الكاملة ، التي قد تكون متشكلة من أحدها ، أو قد تكون مزيجا من هذه الأشكال . كما لا تسمح هذه الدراسات بتقطيع الصورة إلى أجزاء ( المشبه والمشبه به والأداة ووجه الشبه ) وتناسي روحها ، حيث تموت الصورة بهذا التفكيك غير الفني . إن (( البحث عن روح الصورة ، والمحافظة أثناء ذلك على هذه الروح ، هما هدف الدارس اليوم )) كما يقول الدكتور أحمد بسام ساعي.
ولدينا من الشعراء من لم يعن بالصورة في شعره كما نرى لدى شعراء الصورة ؛ أمثال ذي الرمة وابن الرومي وأبي تمام في القديم ، والسياب وأبي ريشة والبردُّوني في العصر الحديث . بل هي عنده واحدة ـ كغيرها ـ من وسائل التعبير الشعري الأخرى . وإذا كان النقد الحديث لا يعد الصور التي فقدت إشعاعها الفني ، وقدرتها على نقل الشعور ؛ بسبب ابتذالها ـ من لغة الشاعر الخاصة ، فإن عددا من شعرائنا لا يعد مصورا في أكثر قصائده . ووجود عدد قليل من الصور المتميزة في النص لا يعني تصنيف الشاعر من شعراء التصوير . لأن النص الشعري ـ مهما كان طابعه ـ لا يخلو ـ في الغالب ـ من صورة.
ولعل من أبرز أسباب اختفاء الصور البيانية ذات الخصوصية الفنية من شعر الشاعر ، تسرعه في إفراغ التجربة ، وعدم البحث لها عن مسرب تصويري ، أو قل عدم تهيئة الجو النفسي والفني لتواتيه هي مرفرفة بجناحيها ؛ كما هو مفترض عند الشاعر المطبوع . وهو ما لاحظه الدكتور الهويمل عند الشاعر السعودي المطبوع محمد الفقي ؛ الذي كان الشعر عنده وسيلة للخلوص من المعاناة والألم ، مما يجعله لا يقيم وزنا للصور البيانية ويعكس (( حالة التدفق العاطفي ، وتلقائية الأداء ، وفورية الاستحضار الدلالي )) ؛ وهي حالة وجدت عند أبي العتاهية من قبلهما . ووجدت عند كثير من شعرائنا المعاصرين ، فهل نسلخ عنهم ألقاب الشعراء ؟
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.