من أبرز الظواهر الاجتماعية في شهر رمضان المبارك مائدة الإفطار، حيث تجتمع الأسرة الواحدة حول الطعام في انتظار لحظة الإذن بتناول الأكل بعد الإمساك عنه ، طاعة وتعبدا لله تعالى . في هذه اللحظة كثير من الجوانب التي تستحق أن نتأملها .
ولعل ألذها هذا الشعور الأسري الشفاف الذي يتضوع عودا وعنبرا حين يضم الوالدان أولادهما إلى كنفهما ، في إطار حميمي عذب ، تضمحل فيه كثير من الخلافات الزوجية المتراكمة ، وتنسى فيه ضروب من المشاكسات والمشاجرات التي تدور رحاها عادة بين الأطفال طوال اليوم ، ويرفرف جو من الصفاء الروحي ، الذي يظهر في النظرات النقية المتبادلة بين الجميع وهم ينصتون إلى الأثير لالتقاط التكبيرة الأولى من الأذان ، أو أول طلقة من مدفع الإفطار ، وفي الدعوات الصادقة التي تفيض بها القلوب في هذه اللحظات المحفوفة بأجنحة الأمل القوي في إجابة الله تعالى للدعاء ، فيطلب كل منهم أن يدعو للآخر بما يحب من خيري الدنيا والآخرة .
إن هذه الدقائق الرائعة تعد أنموذجا حيا ، يتشكل أمام أعيننا ؛ ليرينا كيف يمكن أن تكون الحياة الأسرية إذا خلت من المنغصات ، وصفت من المكدرات المعيشية ، وكان اجتماعها على طاعة لله وعبادة . إذن فلماذا لا تشجعنا هذه التجربة المتكررة يوميا بنجاح مبهر خلال شهر كامل ، على القيام بجلسات مماثلة طوال العام ، تجتمع فيها الأسرة على درس إيماني كل إثنين أو خميس قبيل المغرب ، بحضور عشاء خفيف ، يفطر منه الصائم ، ويطعم المفطر ، وتنتعش فيه العواطف الأسرية المهضومة في كثير من البيوتات بسبب انشغال الوالدين عن أولادهما طوال الأسبوع .
بل لماذا لا يجدد هذا اللقاء كل يوم ثلاث مرات في جلسات الوجبات المعتادة بقية الشهور، فإن في الواقع مرارة من ذلك ، حيث تحف بهذه الوجبات كثير من المنغصات ، منها غياب أحد الوالدين أو كليهما عن أولادهم عند تناول الطعام ، حتى أصبحت مطابخ بعض البيوت أشبه ما تكون بالمطاعم ، فكل فرد في المنزل يصنع له ما يشتهي ، أو يأمر من يصنعه له ، فيأكله منفردا وحده ، فتخسر الأسرة فرصة كبيرة من فرص اللقاء الودي الذي يزيد من تماسكها ، حتى لنرى الرسول صلى الله عليه وسلم يشير إلى أسلوب طريف من أساليب التودد مع الزوجة حينما يقول : (( حتى اللقمة يضعها في في امرأته له فيها أجر )) ، ويؤكد علماء النفس المعاصرين على القيمة النفسية الكبرى لمثل هذه اللقمة، وينصحون بوضعها في أفواه جميع الأولاد بكل حنان وعاطفة جياشة .
ومما يفسد هذه الموائد أن تنعقد خلال مشاهدة التلفاز ، فإن البرنامج المعروض إذا كان شيقا سوف يسرق أنظار الجميع إليه ، فيختل الهدف الذي من أجله يؤكد التربويون على الحرص على الأخذ به ، وهو إنعاش الجو الحميمي من خلال وجبة الطعام بالحديث الودي، والطرائف والنكات ، وإثارة اهتمام بعضهم بالآخر باقتراح أكلة معينة ، أو تذوق لقمة بعينها ، وعبارات الحب والمودة التي تنبعث بشكل عفوي من جميع أفراد الأسرة تجاه بعضها . وسوف يحل محل ذلك كله الصمت القاتل ، بل وإسكات الأطفال كلما فتح أحدهم فمه بكلمة ما ؛ ليبوح بها لأحد والديه ، وهنا تفرخ الجراح المتقرحة من طول كبت الأطفال عن الحديث بحرية وانطلاق في ظل انشغال الوالدين .
رمضان فرصة للتلذذ بطعوم شتى على مائدة الإفطار ، طعوم لا تصنع في المطبخ ، ولكن تصنع في القلوب ، فلنتلذذ بجلساتنا مع أسرنا خلال الفطور والسحور ؛ لتكون لنا انطلاقة لتجديد تعاملنا مع كل فرد منهم بعد رمضان بإذن الله .
بصمة
اصنع سعادتك مع أسرتك ، ولا تنتظر أن تهل عليك من الخارج .
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.