كانت القبيلة العربية تحتفل بنبوغ الشاعر من أبنائها احتفالا ضخما ، ولا عجب ؛ فهو يمثل تدشين وزارة الإعلام بين خيامها ، وتأسيس صحيفة سيارة تنقل إلى الناس أخبارها ، وربط القبيلة بالعالم بشبكة ( إنترنت ) تدافع عن مفاخرها ..
وأما في العصر الحديث فقد أصبحت الفردية ، والانشغال بالذات ، تأكل قلب القبيلة وغير القبيلة ، والتي كان من المفترض أن تتوسع دائرتها إلى القرية ، ثم المدينة ، ثم الوطن بأكمله ، فأصبحنا نسمع بالشاعر يبدع ولا يلتفت إليه أحد ، وينبغ فيلتفت إليه الحساد فقط ، ويبز الآخرين ، ولا يعترف له بذلك من قبل الأقربين بقدر ما يجد نفسه عند الأبعدين ..
وإذا هطلت فكرة التكريم على قوم التفتوا إلى الأموات ، ودفعوا الدروع والجوائز التقديرية للأولاد أو الأحفاد ، وكأنهم هم صانعو مجد والدهم ، بينما يموت المبدع دون أن يسمع من قومه كلمة : شكرا .. خالصة من قلوبهم ..
لقد انبهرت حقا حينما كنت أتحدث مع الشاعر الراحل يوسف أبو سعد حول رسالة وصلت إليه من أحد نقادنا الأفاضل ، يصفه فيها بالشاعر الكبير ، وظل أبو سعد يردد من قرار فؤاده : إنه يقول : الشاعر الكبير .. فقلت له : أو ينتظر مثلك هذا الناقد أو غيره حتى يعترف له بأنه الشاعر الكبير ؟!
لقد تعطش أبو سعد لهذه الكلمة طوال عمره ، ولذلك أخذ يرددها على قلبه هو ليروي بها ظمأه المزمن .. لكي يعترف به أهل زمانه .
حقا لماذا لا يكرم إلا الأموات ، ولا يدرس في الجامعة إلا من أحضرت شهادة وفاته ، ولا يحتفى إلا بكبار السن ، بينما يبقى الشباب تائه المكانة ، يجهل قيمته ، وقيمة فنه بحجب العصر السميكة .. الإهمال .. الحسد .. احتقار السن .. ونحوها ..
لقد مات أبو تمام يافعا ، والشابي شابا ، والعشرات من مبدعينا لم يتموا الخمسين، ومع ذلك فقد كانوا علامات بارزة على خارطة الأدب العربي طوال عصوره .
كل ذلك أحتاج إليه وإلى مزيد منه لأقول دعوني أعلن عن ميلاد ناقد مبدع ، لا تزال أدواته تتخلق في رحم النقد الأدبي الحديث باقتدار وعنفوان ، شاب لم يفترع الثلاثين بعد ، ولكنه انطلق كالسهم من كنانته بعد أن ظل سنين من العزلة الجاحظية العقادية ، امتهن القراءة والبحث الأدبي ، وظل في صومعته الفكرية يتأمل ما حوله ، ويجيل في أجيال الأدب التي عاصر نماذج منها طرفا حائرا ، فاكتشف أن ما ينقص هذا الجيل من الأدباء هو الواقعية في تقويم أدبهم ، وشمولية أطروحاتهم ، حاول أن يكشف سحب المجاملات المتبادلة ، وأن يوقظ ( القبيلة ) من :
ألهى بني تغلب عن كل مكرمة قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
لم يكن ذلك مجرد حماسة وعواطف .. وإن كانت العواطف في مثل هذه السن متأججة ، ولم تكن اتهامات مجردة ، وإن كانت الاتهامات في مثل هذه الأطروحات مثيرة للرجوع إلى الذات ، والبحث بين تراكمات المدائح التي تلقتها عبر مشوارها الطويل عن شيء اسمه أدب أو فن .. وهل كان يستحق كل هذه الأرطال بل والأطنان من المديح ؟!
( سمير بن عبد الرحمن الضامر ) صاحب الأطروحة المثيرة ( صمت العصافير ) والأطروحات الجادة الأخرى التي لا تزال تستحق مزيدا من الأضواء على شجرة ظلت ترتوي من معين جامعة الإمام ـ كلية الشريعة أربع سنوات ، ثم من أحدية الشيخ أحمد بن علي آل شيخ مبارك صامتة بليغة الصمت ، وفي أثناء ذلك مدت جذورها إلى الأردن فامتزجت بروافد أنهار الثقافة هناك ، وعادت ثانية لتعلن عن نفسها ـ بقوة ونبوغ ـ في أكثر من مجلس أدبي كان من بينها أحدية الشيخ أحمد بن علي آل الشيخ مبارك .
تمرة وجمرة
النبوغ ليس ملكا للنابغ وأهله وقبيلته وبلدته ، ولكنه ملك للأمة بأسرها ، فهو نتاج تلاقي بحورها وتربتها ، ومن حق الأمة عليه أن يحفظ أصالتها وهو يمخر عباب التجديد والتأثر بتياراته المزبدة ..
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.