لأمر ما رحلت هذه الزاوية من يومها الذي كانت فيه هانئة مطمئنة ، يوم السبت من كل أسبوع ، إلى يوم الخميس هذا ، ومن صفحة الرأي التي كانت تشتبك فيها التصورات والرؤى والأبعاد ، تقترب وتبتعد ، تختلف وتأتلف ، ولكنها كانت ولا تزال ساحة الرأي الحر وحسب .. أقول .. من تلك الصفحة / المعركة .. إلى هذه الصفحة التي تعيش خارج دائرة الضوء الثقافي ..
وبين التوقف المؤقت ، الذي لم يستمر أكثر من أسبوع ، والانطلاقة الجديدة أخذت ـ كما يقول الأطباء ـ نفسا عميقا من الكتابة المؤطرة بالزمن ، شعرت بأكسجين التفلت من الالتزام الصحفي يداخل مسامات جسدي .. صوت الأديب محمد الصويغ الذي تعودته يتهادى عبر الهاتف ، يستنجزني مقالتي إذا تأخرت لم يأت ذلك الأسبوع .. ولكني أحسست ـ حينها ـ بأن شيئا ما نقص من حياتي ، وتساءلت : هل أنا إذا أتنفس بالكتابة ؟ ولذلك انقبضت رئتاي حين توقفت أسبوعا واحدا عنها ؟ أما أنا أتنفس إذا ارتحت من الالتزام الأسبوعي منها ؟ أمر محير
الواقع .. أنه يبدو أن الكاتب كالسمكة .. لا يتنفس إلا ( تحت الماء ) على رأي نزار قباني ، قدره أن يظل مرابطا على خط النار .. يمسك بيده بندقية قلمه ، والدماء تتناثر حوله ، وربما تناثرت منها أفواف الزهور .. والعطور .. لا يهم .. المهم أن تبقى البندقية مشحونة بالرصاص .. والضياء .. والبذور .. والحب لكل إنسان يعشق الحياة والسلام والأمن الإنساني .. ويبقى الرصاص جاهزا لمن يكره الحياة .. والإنسان .. والحب ..
وللتوقف النسبي أكثر من ثمرة .. ولكني أرى أن أنضر ثمراته هي هذه الاتصالات الصادقة المعبرة .. التي افتقدت الزاوية في مكانها وفي موعدها .. شيء كبير أن تحس بأن هناك من يقرؤك .. قاريء واحد يكفي أن أنثر له مشاعري .. وأشعل له قناديل ذهني .. وأهديه ذوب حشاشتي .. فكيف بالعشرات.. قاريء واحد في حجم وعي من هاتفني يزرع الصمود في ذراعي لتظل تمسك بالزناد .. قاريء واحد فقط .. هو كل ما يتمناه الكاتب الصادق .. لتنتقل كلمته إلى وعي الآخرين .. ولو كان الآخرون واحدا فقط ..
فلا بأس .. إن ألجأت محاولات التطوير وتجديد الأسماء مهندسي الجريدة إلى توقيف سن قلمي عن النزيف .. ولو برهة لم تطل كثيرا .. فلقد جددت ( اليوم ) بهذه الطريقة الغامضة عهدي بها ، وكل شيء يخلق .. حتى الإيمان .. الذي تجدده كلمة التوحيد الخالدة ، أفلا تخلق الصلة بين الكائنات ، فتحتاج إلى تجديد ؟
ولكن هل الكاتب مرهون الإبداع بمن يستدعي إبداعه ؟
لا .. فقلم المبدع لا يكف عن الكتابة .. أبدا .. ولا ينتظر من يدعوه إليها .. ولكن قد يستحثه الآخر بطلبه ، ويثيره مبدع آخر بومضة من إبداعه ، ويشعله ضدٌّ له في فكره أو أساليب كتابته ..
هل استطعت أن أصف ( الحالة ) التي مرت بي .. ربما ..
هل فيما كتبت اليوم شيء مفيد للقاريء .. ربما ..
الذين يطلبون النفع المباشر من الكاتب للقاريء ، وينعون على الكتاب وصف حالاتهم الخاصة ، هم بعيدون عن خاصية الإبداع الأدبي .. وإلا لماذا لا نزال نردد رثاء ابن الرومي لولده ، وعتاب المتنبي لسيف الدولة ، وشكوى البحتري في إيوان كسرى ؟
التجربة القادرة على الخلود هي التي تستطيع أن تنطلق من مضيق الشخصية ، إلى محيط الإنسانية جمعاء .. وهي تعبر عن قضية خاصة ..
شكرا لكل من سأل .. وإلى اللقاء …
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.