لم أكن متهيئا نفسيا لكل ما رأيت ..
( الصدمة ) تعبير لا يكفي أن يعبر عن الشعور الذي خالجني وأنا أدير عيني المبهورتين في تلك البيوت المهترئة ، الدامعة الأسقف .. بل التي جفت على جدرانها من الداخل دموع المطر منذ العام الماضي ..
ها هنا مكيف .. حسن ، شيء حسن حقا أن ترى مكيفا هنا ، ولكن يا للأسف إنه شبح مكيف فقط ، ليس إلا .. إنه يذكرك بقولهم : أسمع جعجعة ولا أرى طحنا .. والسخانة في هذا الشتاء .. أينها ؟ لا توجد ..
هنا فرش .. ولكنه لا يفترق كثيرا عن الأرض بلا فرش .. بل إنه أسوء من ذلك..
وهنا بعض الأواني المرصعة بآفات الزمن .. إذن .. أين المطبخ .. إنه بجوارك .. كيف امتد المطبخ إلى الصالة .. آسف إلى الدهليز .. عفوا إلى موزع المنزل الداخلي .. عذرا .. كل هذه التسميات لشيء واحد .. واحد فقط هو كل المنزل .. والأثاث ؟ أتبحث هنا عن أثاث ..
من هناك ؟
هذا والدنا ..
ماذا به ، هل هو نائم ؟
لا ولكنه مصاب بالجلطة منذ زمن ، ومنذ الأمس وهو داخل في غيبوبة تامة ..
تعال يا أستاذ .. والتفت .. نعم .. انظر إلى البيت المجاور .. من به ؟ أرملتان ليس لهما معيل .. وهناك بيت آخر به أرملة وأيتام توفي أبوهم قبل أكثر من شهر .. فجفت في عيونهم الحياة .. ودخلوا دوامة الانتظار اليومي للمحسنين ..
وبيت آخر .. تربعت فيه المسكنة وفرخت .. بيت مرهون .. وصاحبه رمى بأهله في الشارع لولا تدخل أهل الخير فأرجعوهم باكين .. عجوز ، وابنها الفلاح .. متزوج وله عشرة أطفال ..
وعدد من الجيران الأقارب .. هذا أبوهم قد أصيب بالسرطان في عينيه فأطفأ نورهما، ووالد هؤلاء أقعده المرض فهو على كرسيه المتحرك ، وابنه معوق على سريره .. إنهم يسحبونه لتراه .. أرجوكم لا تحضروه .. كفاني .. لا تحضروه .. كان الله في عونكم .. اغرورقت عينا شيبة المنزل .. دمعتان سالتا على وجنتيه المجعدتين أحرقتا شغاف قلبي .. أدرت وجهي ، وانصرفت أتمتم كان الله في عون الجمعيات والمؤسسات الخيرية ، فالعبء كبير ، فالموت والمرض يصنعان الفقر في كل لحظة .
ولكن السؤال الذي تبادر إلى ذهني هو : هل إدارة الشؤون الاجتماعية والجمعيات الخيرية هي المسؤولة الوحيدة عن كل هؤلاء ؟
أظن أنهم أبرز المسؤولين عنهم ، بعد أن وكلتهم الدولة بهذا الأمر ، وهم لا شك يقومون بجهد مبرور ، وأعمالهم يشهد بها حتى هؤلاء المساكين إذا سألتهم ، ويردفون شهادتهم بالأيمان ..
ولكن هناك متعففون لا يرغبون أن تعرفهم جهة رسمية أو أهلية .. ويظلون يلوكون بؤسهم وفاقتهم .. وهناك من الفقراء من لا يستطيع أن يتقدم لهاتيك الجهات ويتمنى من يرشده إلى الطريق إليها ، وهناك من لا يكفيه ما يعطى منها ، وهناك من تنزل به كربة لا تنتظر الأعطيات المحددة ، ويحتاج من يفرجها له بسرعة ، وهناك من يحتاج إلى البحث عنه بين ركام الإهمال والنسيان ..
فلماذا لا تقوم أنت بذلك .. أنا .. نعم أنت ، وعد نفسك واحدا ممن شرفهم الله بالعمل في إحدى هذه الجمعيات بدون دوام رسمي .. وتذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم : (( والله لا يؤمن .. من بات شبعان وجاره جائع )) .
بصمة ..
لا تزال أصداء عبارة أحدهم ترن في أذني .. البيؤت كما ترى .. ( خرابة ) .. وكل ما نخشاه أن يأتي المطر .. لأننا حينئذ سنسكن الشارع ..
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.