من طبيعة المجتمع الثقافي المفعم بالحراك أن يكبر هامشه، حتى يبدو هذا الهامش أكبر من النص الأصلي ـ كما هي المصطلحات البحثية ـ بل ربما قلب المتابع أوجه صفحاته فلا يكاد يرى سوى السطور الصغيرة الحروف، والتي جاءت لتخدم النص الأصلي ، وتكتسب قيمة وجودها بقدر خدمتها له.
وفي عرف التحقيق فإن الهامش ـ مهما كان مهما ـ فالأولى ألا يكبر، وألا يكون كتبا أخرى متطفلة على الكتاب الأصلي؛ لأنه ليس شرحا، ولا كتبا جديدة، ولا يقوى أن يكون كتبا جديدة؛ لأنه يفتقد الخطة والمنهجية والاستدلال والمنطقية في الترتيب والتنظيم؛ لكونه تابعا للنص الأصلي.
ولكن الباحث المبتدئ يبدأ يحشد كل ما يمكن أن يتصل بالنص الأصلي في الهامش؛ حتى يستعرض ثقافته، ويعرض للقارئ جهوده، فلا يترك شيئا اطلع عليه يمكن أن يضعه ولو من بعيد إلا وضعه، فتحتشد أمور كثيرة لا أهمية لها في هذا الموضع، وإن كانت يمكن أن تكون مهمة لو أنها وضعت في مواضعها.
لست هنا ـ بالطبع ـ أقصد الحديث عن أدبيات التحقيق العلمي، ولكني وجدت ذلك ماثلا في المشهد الثقافي الحالي، حيث أصبح المثقفون المبدعون، والأدباء الذين يمثلون حقيقة اللغة والأدب والعلم متوارين وراء السطور الصغيرة التي تنامت حتى غطت مساحاتهم الأصلية، فلم يبق لهم مكان، وأخذ الإعلام يلون ويزركش تلك الأحرف الصغيرة، ويفسح لها المجال بين أروقته الصحفية، وفي استديوهاته، ظنا منه أنها من النص الأصلي، حتى ربما خلط الهامش بالنص، وهنا يبدو الضعف، وتتعرى الحقائق، وينكشف العوار.
المشكلة ليست هنا ..
وإنما هي في التأريخ للمرحلة التي تمر فيها هذه التمويهات، والقرارات التي تنبني عليها، ورؤية الآخر الذي هو خارج الدائرة .. تخصصا أو إقليما ، حين يبهر بالصور والتصريحات والبروز المفتعل، فيحسب هذه الهوامش نصوصا أصلية تمثل مشهدها الثقافي الخاص، ثم يبحث عن نتاجها فلا يجد شيئا ذا بال، ثم يبحث عن أثرها في المجتمع فلا يجد سوى (الصدى) الذي تبعثه طلقات مفرقعات، والمشكلة ـ أيضا ـ حين يأتي جيل جديد فيرى كل هذه الإعلاميات المزيفة فيقع في الشراك، حيث يقترب منها، فإذا اقترب لم يجد سوى (لا أدب) ، و(لا علم)، ليس ثمة سوى تتبع لعورات الناس، ولأخطائهم التي لا يقع فيها سوى العظماء الذين يعملون؛ ولذلك يخطئون.
مجالس تنعقد، وأوراق تسود، وبرامج تذاع، وربما دارت المطابع على (لا شيء)؛ بينما ( الشيء) يكون هو فريسته السهلة .. لسبب واحد فقط .. أنه هو النص الأصلي الذي لا يمكن أن يسمح لنفسه أن يزاحم الهامش، فالهامش هو الذي يكبر على حساب النص وليس العكس.
الحق أن هذا الهامش يدل على وجود موهبة فيه ليست قليلة، بل ربما رائعة .. ولكنها مطمورة بالعجب مرة، وبالحقد مرة، وبتضييع الفرص الإيجابية مرات.
وأن هذا الهامش يمكن أن يكون نصا أصليا لو أنه التفت لنفسه، واكتشف مجال إبداعه، ولم ينشغل بالنص الأصلي الذي فوقه، وراح يبحث عن مكان مناسب له ليكون فيه نصا أصليا، تظهر فيه أصالته، وما منحه الخالق العظيم من إمكانات ضيعها سنين متطاولة في البحث عن ثغرات الآخرين التي لا يعصم منها إلا الأنبياء؛ ليضم بعضه إلى بعض فيضخمها لتخدم هدفا خفيا في نفسه، ربما اختفى حتى عن عينيه هو.
لقد ظن أولئك أن الساحة لا تسعهم إلا إذا أخرجوا غيرهم منها، أو أسقطوهم، وهو ظن سوء .. فالساحة أوسع من ذلك.
نعم .. إنني حقا آسف على من تجوهرت اللغة في قلمه ولسانه، وفاض بين يديه وقته، وكمنت الموهبة بين جنبيه، ثم يضيع كل ذلك في قال فلان، وقيل فيه!!
وصدق الرازي حين عبر الحالة النفسية التي يعيشها أولئك الجدليون؛ وقد مر بها خلال فترة التأويل العقدي؛ فقال:
نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
لقد كنت لا أريد أن أدخل في هذا النفق الذي يخرجني من دائرة الفعل إلى دائرة القول، من دائرة الاهتمام بما ينفع إلى دائرة ما لاينفع .. إلا أن يكون إيماءة لمن أحب لهم الخير ؛ حتى لا ترحل حياتهم .. بلا شيء .. حتى في الجانب الذي أحبوا أن يبرزوا فيه أيا كان .. فإن المرء إما أن يكون إيجابيا يدفع الآخرين إلى العطاء ويحفزهم لما ينفع .. وإما أن يكون سلبيا يحاول أن يصيب الآخرين بسلبيته .. بينما النتائج أنه ربما أيقظ الآخر الذي أراد إسقاطه فاستفاد من العلل التي رصدها عليه (والناقد بصير) فحسن من حاله فازداد علوا، بينما هو ضاعت حياته .. بلا ثمن.. بلا ثمن ..!
لحظة موعظة
” يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته “. أخرجه أبو داود وأحمد.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.