جاءت الندوة الثانية للإصلاح والتأهيل في المؤسسات الإصلاحية؛ التي انعقدت في الرياض الأسبوع المنصرف تكريسا لعدة أنساق حضارية جديدة، تتسق مع الجو العام الذي تعيشه المملكة حاليا، ولاسيما ما يتصل بقضية الإصلاح بكل جوانبها المختلفة والمتداخلة.
لعل أول ما لفت نظري في هذا الملتقى هذا الامتزاج الرائع بين العسكريين والمدنيين على أعلى المستويات، فالقاعة التي اعتدت أن أرى منظورها العام في المناسبات الثقافية بنمط واحد، أصبحت أراها مناصفة بين البدل العسكرية، والثياب المدنية.
ولهذا أثر بالغ في تكريس ثقافة أصبحت في الفترة الأخيرة بادية للعيان، تركز على كسر الحواجز بين المؤسستين، وتتيح الفرصة كاملة لتدفق الخبرتين في نهر واحد؛ يتجه لسقي أرض الوطن، وتخصيب الحياة فيه؛ لينبت به الزرع، ويدر به الضرع.
وإذا كان مصطلح (الشفافية) أصبح رائجا في الصحافة في الفترة الأخيرة، فقد أصبح حقيقة واضحة في هذا الملتقى، فقد صارح القضاة العسكريين، وصارح العسكريون القضاة، وصارح الباحثون وطنهم بنتائج أبحاثهم التي أجروها على عينات من السجون في المملكة، وتقبل الإداريون في المديرية العامة للسجون كل الملاحظات، وفرحوا بمعرفة أوجه القصور، وبادروا بالتعبير عن هذه الفرحة، وعرفوا المنتدين ما خفي عنهم من إصلاحات أجريت، ولا يزال بعضها في طور التجربة، وتحتاج إلى فترة لتعمم في بقية مناطق المملكة.
بهذا نتوقع مستقبلا أكثر إبداعا وإشراقا وجمالا لهذه البلاد.
المخلص لوطنه ليس هو من يخفي الحقائق ليحقق له وجودا شخصيا، وإنما المخلص هو الذي يبادر بكشف الواقع كما هو دون تزيد أو مواربة ليسهم في تصحيح المسار.
إن الرغبة في الإصلاح في حد ذاتها، والتي لمست من اللواء علي بن حسين الحارثي مدير عام السجون، والتي بدأت من حين الدعوة لقيام ندوة ترى أن: ((السجن عقوبة للفرد على خطأ ارتكبه، ولكنه ليس عقوبة صرفة، بل هو مرحلة للإصلاح وإعادة التأهيل على ضوء التوجهات النظرية في مجال الإصلاح والتأهيل)).
إن السجن ـ في نظري ـ فرصة رائعة جدا لإصلاح المجتمع كله، ذلك لأنه يجمع الأعضاء المصابة بأمراض خطيرة ومعدية؛ بالاقتداء والنمذجة السيئة، فإذا تمكن من علاجها، ودراسة أوضاعها، فقد وضع رجله على أول سلم النجاح في حماية المجتمع كله.
إن كثيرا من الدوائر الرسمية الإصلاحية تحتاج إلى كثير من الجهد لتصل إلى مكمن الخلل لتصلحه، بينما السجون تتيح لها الفرصة الذهبية، ولكن التعامل معها يظل تقليديا، لا يعدو إلقاء كلمة، أو توجيه سريع ثم انقطاع.
وكثير من هذه التوجيهات تتركز في الوعظ والإرشاد المباشرين في قضية التوبة وحسب. وكأن السجين ليس إنسانا ذا علاقات متشابكة مع ربه وأهله وعمله الموقوف أو المنتظر، فهو يحتاج إلى كل ما يحتاجه الإنسان الطليق.
بل إن السجين يمكن أن يكون مفكرا أو أديبا أو مبدعا فنيا، أو إداريا ناجحا، فالسجن ليس دائما للمجرمين، بل قد يدخله معسر ركبته الديون لظروف خاصة، وقد يرتكب الجريمة إنسان صالح ولكنه وقع فريسة للغضب وللشيطان ففلت زناده بطلقة أو اعتداء على الآخرين، ثم عاد إلى صوابه بعد أن وقع الفأس في الرأس.
ثم إن التدريب الذي أصبحت له سوق رائجة في الحياة العامة ينبغي أن يدخل بعمق في السجون لتدريب النزلاء على كل المهارات الحياتية المختلفة.
ما نحتاجه ـ إلى جانب إحسان المعاملة مع السجين وإعطائه كافة حقوقه الإنسانية ـ هو السعي لبناء استراتيجيات واضحة لحمايته أولا من الآثار النفسية وتبادل الخبرات الإجرامية داخل السجن، لبنائه وتأهيله لحياة أفضل في المستقبل بعد خروجه من السجن. ولعل مشروعات بناء إصلاحيات ضخمة متكاملة الخدمات يعد من أبرز ما يشير بوضوح إلى الاهتمام الكبير بإصلاح أوضاع السجناء داخل المملكة.
وثانيا: اقترحت أن يستفاد من عينة السجناء الموجودة؛ لدراسة الجريمة في المجتمع السعودي بطرح تساؤل خطير وكبير ومهم جدا، هو: لماذا دخل هؤلاء السجون؟
إن الإجابة عن هذا السؤال سوف تكشف أخطاء في التعامل الأسري، وأخطاء في التربية، وخللا في التعليم، وتتطلب أساليب جديدة في التعامل مع المخطئ. ويمكن أن تنشأ عدد من المؤسسات المدنية والعسكرية في بلادنا على إثر اقتراحات الباحثين وتوصياتهم.
والثمرة سوف تكون طيبة جدا يجنيها الجميع بلا استثناء بإذن الله وعونه.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.