السويلم .. واللحظة الغائبة

لحظة الموت .. الغائبة عن الأعين .. وربما عن التوقع القريب .. هي التي ربما تكون أقرب شئ إلينا ..!

ما أحرها .. حين تنتزع منا الأحباب فجأة دون ترقب!

وما أعظمها .. حين نشعر بعجزنا تجاهها!

وما أغفلنا .. حين تتلاشى الصدمة الأولى .. ثم ندفن أحبابنا بأيدينا .. ثم نعود من جديد .. نغيب عن أعيننا تلك اللحظة القادمة ..!

لكن عبد الله بن محمد بن جاسم السويلم لم تكن هذه اللحظة غائبة عن عينيه في ظني الغالب حين جاءته، لقد كان واقفا قبل يوم واحد على شفير قبر، يحثو التراب على صاحبه، أترى تصور أن يكون هو صاحب القبر الذي إلى جواره؛ هذا الفم الأرضي المفتوح الشدقين، الذي التهم المليارات دون أن يشبع!

لقد كان يحلم كما يحلم كثيرون أن يتقاعد قبل أوان التقاعد ولو بسنتين أو ثلاث؛ لماذا يا شيخ عبد الله .. هكذا سألته قبل أيام ؟ فأجاب : لأرتاح .. ! ومم ترتاح ؟ أمن التوجيه الذي كان يعمل فيه ؟ لا .. ولماذا ؟ لأنه يمارس هذا التوجيه في المدارس والمساجد .. وربما سافر إلى القرى والهجر البعيدة من أجل ذلك.

حقا ماذا كنت تريد أن تفعل إذا تقاعدت ؟ لأقرأ وأبحث وأكتب !

كثيرون ظلوا ينتظرون هذه الفترة الحرة الهانئة بالبعد عن قيود الدوام، وقسر التعليمات، وقولبة الجهود حسب نظام المؤسسة ورؤاها الخاصة بها، والتي ربما أرغمت المبدع والمتطلع والطموح على ما لا يريد أن يفعل.

ولكنهم لم يصلوا إليها.

كثيرون يمنون أنفسهم بأنهم سوف .. وسوف .. ولكنهم حين وصلوها كانوا أعجز من أن يقوموا بشيء من ذلك بسبب وهن العظم، وتعب الشريان، وسلطنة السكر والضغط واضطراب نبضات القلب.

كثيرون كانوا يظنون أنهم في هذه السن يمكنهم أن يتفرغوا لآخرتهم بعد أن أعطوا دنياهم كل سنوات الشباب والرشد والشيخوخة المبكرة، فلم يبقوا إلا فتات العمر لأجل الأعمال التي كانت أهدافا عليا لهم .. لكنهم فقدوا الفرصة المؤجلة بحلول اللحظة الغائبة.

لقد كان الشيخ عبد الله السويلم قطرة المطر التي يفتح الأطفال أفواههم لتلقيها نقية صافية من السماء مباشرة دون أن تلوثها الأرض.

كان ذلك الإنسان الذي أحبه كل من عاشره، دمث الأخلاق، قريب النفس.

لم يعرف إلا بالخير والبر والإيمان طوال حياته. رفيقه كتاب الله، عاش إماما عقودا من الزمان، خطيبا مؤثرا، بل كان من أوائل من حمل رسالة الدعوة إلى الله في الأحساء منذ مطلع شبابه، متميزا بالفكر المتفتح النير، مثقفا ثقافة واسعة، لم يكن متشنجا، ولا متوترا في حواراته الفكرية، بل كان يستمع للآخر بكل رحابة صدر.

فكره الوسطي المعتدل شربه الشباب الذين عاشوا في مسجده وفي حيه، وتواصلوا معه؛ حتى تعلموا منه كيف يمكن أن تصب الموعظة في النفوس العطشى دون غصص أو أذى.

وامتد فضله حين مد يده للعمل الخيري في الأحساء، فتعاون مع جميع مؤسساته بكل إمكاناته بأريحية تامة.

بقي في حلق العلم في المساجد يثني ركبه مع زملائه من أهل العلم الشرعي ومنهم الشيخ خالد بن محمد المغربي إلى آخر فجر مر عليه في حياته .. وهو يقرأ القرآن ويتدارس تفسيره في قوله تعالى : {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـٰكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} [سورة المؤمنون 23/115] .. بل كان مؤمنا برجوعه إلى الله، محبا للقاء الله، هذا ما نحسبه فيه والله حسيبه، ولا نزكي على الله أحدا.

بطاقة تعريفية:

ولد عام 1369هـ، وتخرج في كلية الشريعة بالرياض، وعمل مراقبا في تعليم الأحساء، ثم رئيسا للمناهج الدراسية، ثم عاد مراقبا لتعليم الأمية، ثم لعل الله قد أراد به خيرا كثيرا؛ فأصبح رئيسا لشعبة التربية الإسلامية؛ فاتسع فضله، وعم نفعه على بناتنا، ومارس حبيبته الدعوة إلى الله من خلالها بالحكمة والموعظة الحسنة.



اترك تعليقاً