إن النقد العربي أدرك جوهر قضية إبداع الأدب، وخطواته الأولى في نفس الناشئ في رحابه، وبين بما لا يقبل الشك أن الأساس فيه (الطبع) تلك “الغريزة في الإنسان، والاستعداد الجبلي الذي يودعه الله من عباده من يشاء” [التفكير البلاغي، حماد مود، ص 221 ]، وهو تلك الملكة التي يشبهها ابن الأثير بالنار الكامنة في الزناد، ولكن التراث النقدي أصر على أن المنتج الإبداعي لا يمكن أن يكون وليد الطبع لوحده، وإن كان هذا الطبع من مستلزمات علمية الإبداع، بل يحتاج إلى أدوات ووسائل، تعزز الموهبة وتنميها، وبتكاملهما يكونان قادرين على إنتاج أديب.
إن الطالب الذي بين أيدينا هو قائد المستقبل، وهو لسانه الناطق، وعينه الساهرة، وقدمه الراسخة، ويده الممتدة بالعطاء والإبداع، ولذلك فإن العناية به يجب أن تكون من جميع الجوانب، ومن ذلك قدرته على التعبير عن خلجاته، وعن أحاسيس الإنسان في عصره، ليخلد قضايا أمته، وأمجاد وطنه، ويسجل نأمات روحه.
ومن أجل الوصول إلى ذلك فلا بد أن يمر الطالب بثلاث خطوات تدور في كتب النقاد لمن أراد أن يلج بحبوحة الأدب، هي الرواية، والدربة، والتقويم.
فأما الرواية، فهي لزوم استلهام النماذج الرائعة في الفن الذي علقت به همة الفتى، ومجالسة من افتتنوا به، وصار لهم هواء يتنفسونه، يقول حازم القرطاجني: ” وأنت لا تجد شاعرا مجيدا منهم إلا وقد لزم شاعرا آخر المدة الطويلة وتعلم منه قوانين النظم واستفاد عنه الدربة في اتخاذ التصريف البلاغية” [منهاج البلغاء وسراج الأدباء: 27].
وقد صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: ( تَفَقَّهُوا قَبْل أَنْ تُسَوَّدُوا)، أَيْ: تُجْعَلُوا سَادَة. قَالَ الْبُخَارِيُّ رحمه الله تعالى: “وَبَعْد أَنْ تُسَوَّدُوا” وَإِنَّمَا عَقَّبَهُ الْبُخَارِيّ بِقَوْلِهِ: “وَبَعْد أَنْ تُسَوَّدُوا” لِيُبَيِّنَ أَنْ لا مَفْهُوم لَهُ؛ خَشْيَة أَنْ يَفْهَم أَحَد مِنْ ذَلِكَ أَنَّ السِّيَادَة مَانِعَة مِنْ التَّفَقُّه.
وَإِنَّمَا أَرَادَ عُمَر أَنَّهَا قَدْ تَكُون سَبَبًا لِلْمَنْعِ؛ لأنَّ الرَّئِيس قَدْ يَمْنَعهُ الْكِبْر وَالِاحْتِشَام أَنْ يَجْلِس مَجْلِس الْمُتَعَلِّمِينَ, وَلِهَذَا قَالَ مَالِك عَنْ عَيْب الْقَضَاء : “إِنَّ الْقَاضِي إِذَا عُزِلَ لا يَرْجِع إِلَى مَجْلِسه الَّذِي كَانَ يَتَعَلَّم فِيهِ” . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : “إِذَا تَصَدَّرَ الْحَدَث فَاتَهُ عِلْم كَثِير”. وَقَدْ فَسَّرَهُ أَبُو عُبَيْد فِي كِتَابه غَرِيب الْحَدِيث فَقَالَ: “مَعْنَاهُ تَفَقَّهُوا وَأَنْتُمْ صِغَار قَبْل أَنْ تَصِيرُوا سَادَة فَتَمْنَعكُمْ الْأَنَفَة عَنْ الأخذ عَمَّنْ هُوَ دُونكُمْ فَتَبْقُوا جُهَّالا”.
وهنا لا بد من حث الفتى على استمرار التأدب بأروع ما أثمرته قرائح الشعراء والأدباء، وما حفظته ذاكرة الرواة من قصص العرب وأمثالهم، مهما بلغ من الحذق، حتى بعد أن يكبر ويصبح شاعرا أو أديبا.
ومن أبرز ما يحتاجه الناشئة في رياض الأدب لتحقيق هذه الخطوة: القرآن الكريم؛ حفظا وتدبرا، وتمثلا وفهما لمعاني كلماته الكريمة، ومعانيه العظيمة، وما صح من السنة والسيرة النبويتين؛ حفظا وتمليا، واستلهاما للقصص والأمثال، وأجود الشعر العربي الرصين، قديمه وحديثه؛ حفظا وتحليلا، وتمثلا ومحاكاة للأساليب، وتزودا بالألفاظ، وعلما العروض والقافية؛ تعلما وفهما، وتدربا، ورائع النثر العربي؛ في مظانه القديمة والحديثة، ليسبح في بحار الإبداع المسترسل، ويتزود من ألوان المعرفة، وفنون التعبير، من قصة، أو رواية، أو مقالة، أو مقامة، أو خاطرة، أو مسرحية، أو تعبير علمي بأسلوب أدبي، وعلوم الآلة؛ مثل: النحو والصرف والبلاغة، وأضرابها، وأجود نتاج الأدب العالمي، بعد الاطلاع عليه، والانتقاء منه بعناية، في الفن الذي يميل إليه الطالب.
إن الإلحاح على أن يكثر المتأدب في بواكير نشأته الأدبية من رواية الشعر والأدب وحفظه والتدرب عليه، “فكرة تصدر عن وعي بضرورة امتلاك الشاعر لأدواته الثقافية وللخبرة الشعرية التي لا غنى عنها. وربما سيطرت هذه الفكرة على الشعراء حتى في القرن الثالث والرابع الهجريين وما بعدهما ـ كما يقول الدكتور فايز الذنيبات ـ ؛ فكما يروى أن أبا نواس كان في بدايته الشعرية قد طلب منه أستاذه (والبة بن حباب) أن يحفظ دواوين مشاهير الشعراء آنذاك، وبعد أن فرغ منها طلب منه أن ينساها ولا يتطرق إليها. وفي هذا إشارة إلى أهمية استيعاب التجارب السابقة والإفادة منها, وقد يكون الشعر في مثل هذه الأحوال عبارة عن إعادة هضم وصياغة ما قيل”.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.