العمر.. مهما طال .. فهو أمام الأماني والآمال الإنسانية قصير، والإنسان بين حالين إما أن يظل مندهشا أمام تصرم حياته، يسوف ويؤجل استقامته وإنجازاته، ويضع لها آماد وهمية، حتى يتفاجأ بالأجل، فيلتفت وراءه فلا يجد ما يقدم به على مالك يوم الدين، سوى زاد قليل لا يبلغ المسافر، ولا يشبع المقيم، بل لا يجد حتى ما ينقش به اسمه على جبين الأرض، التي أمر بالإسهام في عمارتها، فيقلب كفيه على ما أنفق فيها، دون جدوى، فقد أكل وشرب ولبس وسافر و..و..و.. ولا شيء بعد.. فكل ذلك سينطوي، ولن يظل له ظل فضلا عن وجود خالد.
وأما الحال الأخرى فتلك التي هام بها الطامحون، الذين التفتت قلوبهم إلى فردوس الجنة، فطلبوها، ولم يقنعوا بعتباتها، ووطنوا خطواتهم على اجتياز وعر المجد، واستسهال صعبه.
عجبا لهم .. كيف جمعوا الحسنيين وعاشوا سعداء، بينما عاش غيرهم للدنيا في الدنيا بكل مباهجها الدنيا، ولم يناولوا منها سوى الصداع.
بل عجبا لأولئك الأعلام، لا تكاد تجد ميدانا إلا خاضوه ونجحوا فيه، وها أحدهم خاضها منتصرا منذ طفولته، حيث ولد الشيخ الراحل عبد العزيز المسند عام 1356هـ، حيث ولدت المدارس النظامية في الأحساء والحجاز، ولكنها بعد لم تفتح في نجد، فتوجه إلى الكتاب حيث تفتحت على أصابعه براعم الحروف، التي صحبها طوال حياته؛ سبعة وخمسين عاما، والتحق بدار التوحيد في الطائف وحصل منها على الشهادات الابتدائية والمتوسطة والثانوية، كما حصل على الشهادة العليا (الليسانس) من كلية الشريعة والدراسات الإسلامية في مكة المكرمة إضافة إلى حصوله على دبلوم في اللغة الانجليزية.
في المجال النظامي قاد عددا من المؤسسات التعليمية؛ معاهد وكليات، فمستشاراً لجامعة الإمام، ثم انتدب رئيساً عاما لتعليم البنات.
وصدرت له مجموعة من المؤلفات، مثل: الأندلس تاريخ وعبر ، والعلم المفقود في المواريث، والزواج والمهور، ومتى ينتصر المسلمون، والزوائد في فقه إمام السنة أحمد بن حنبل، وواضح جدا تنوع اهتمامات الشيخ وتعدد عطاءاته من خلال تنوع مؤلفاته.
وعدت الفترة التي تولى فيها الشيخ الراحل تعليم البنات الفترة الذهبية إذ نجح في إنشاء المدارس بكثرة، وإنشاء معاهد للمعلمات في مختلف القرى والمدن، كما نجح في تثبيت المعلمات في مناطقهن وقضى بذلك على مشكلة النقل التي لا تزال تؤرق المعلمات.
وفي المجال الخيري كان أمينا عاماً لجمعية البر بالرياض أكثر من أربعين عاما تبرعا، وهو عضو اللجنة الشعبية لرعاية أسر ومجاهدي فلسطين. كما أنه رأس عددا من اللجان وكان عضواً في بعض الجمعيات.
وفي المجال الإعلامي كان له النصيب الأوفى؛ فقد كان كاتبا في بعض الصحف، وهو عضو مجلس إدارة مؤسسة الجزيرة للصحافة والنشر ، وقدم عددا من البرامج الإذاعية والتلفازية، إلى وقت قريب جدا، فقد كنت أستمع لحلقة إذاعية من أحد برامجه، كدت أحفظ مضمونها من أول مرة، وعدت أحكيه لأهلي في بيتي، وكأن الشيخ قد سقاني إياه، فتأثروا به كثيرا كما تأثرت بها، لما يتمتع به الشيخ من فن إلقائي متميز.
الحكاية لم تبدأ قبل أيام، بل بدأت منذ عقود متطاولة؛ حيث كان هناك ثلاث شخصيات أخذت بلباب المشاهد السعودي، تشترك في سمات واحدة، هي العفوية، والموسوعية، والاستجابة لحاجات المشاهد ومشكلاته اليومية، هي: الشيخ علي الطنطاوي، والشيخ عبد العزيز المسند رحمهما الله، والشيخ عبد الله المصلح حفظه الله.
ولعل الناس، ولا سيما النساء لا يمكن أن ينسوا (منكم وإليكم)، والذي لم يكن في زمن البث المباشر، ورسائل الجوال والبريد الإلكتروني، بل كان يتلقى المشكلات الاجتماعية، والاستشارات الأسرية عن طريق البريد المكتوب العادي جدا، في وقت لم يكن الناس يعرفون شيئا عن الاستشارات الأسرية. وكان البرنامج يحظى بمشاهدة شعبية عريضة، ويعد متنفسا لكثير من النفوس المأزومة، يعالجها الشيخ بعلمه الغزير الموسوعي، وفهمه للواقع، وحكمته، ورقته، ومداخله العجيبة، {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا}.
وإذا بورك في الرجل فلا تسل عن شواطئ بحره!
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.