في زيارة لمجلس الآباء لروضة المجد في الأحساء قبل أيام تملكتني الدهشة، مقر متواضع في حي آهل بالسكان، تحول إلى قارورة عطر، تأطَّر جيدها بشريط يزهو بألوان الطيف، وتوزعت في الداخل أنفاس الأطفال من الجنسين على الجدران في لوحات طفولية باسمة مرحة، معبقة ببرقيات لماحة موجهة إلى آبائهم وأمهاتهم، وزاد من دهشتي كثافة الحضور، الذي لم أعهده في مجالس الآباء ولا الأمهات، وكأن الروضة استطاعت إقناع الآباء بجدوى الحضور، وحركت في دواخلهم أهمية صحبة أطفالهم، وهو ما تكرره الروضة مع الأمهات كذلك في موسم ربيعي آخر.
وتجولت في (أشراب) الروضة، [والشرب في عرف المزارع الأحسائي هو القطعة المحتجزة من المزرعة]، فوجدت لكل شرب أو (فصل) كما في العرف المدرسي اسما خاصا محببا للطفل، وفي داخله تتزخرف الأجواء بأزهى الألوان، وأجمل الأشكال، تتجاور فيه المعلومة مع المهارة، ويلبس فيه الحرف ثوب لعبة أو فاكهة، وتتشكل فيه الحياة الكبيرة في مكونات صغيرة يصنعها الطفل أو تصنع له.
الروضة في بلادنا هي البيئة الجاذبة المحفزة للدراسة، تتوافر في كثير منها أنماط التعلم الحديث؛ مثل التعلم عن طريق الترفيه، والتعلم التعاوني، والتعلم الذاتي، وتمثل فيه المعلمة أما حانية، ومربية حريصة، ومستشارة مؤتمنة، أو هكذا يجب أن تكون.
ومن يتأمل ماذا الذي يحدث بعد انتقال الطفل من تلك الروضات الندية الحلوة الزاهية، إلى تلك الفصول والصناديق الإسمنتية في كثير من مدارسنا، حيث لا يرى الطالب إلا ظهر زميله، ويطلب منه أن يتحول إلى مجرد مستمع، ويمتدح على سكوته وهدوئه، في العمر الذي كان يجب أن يشجع فيه على المشاركة والحركة، من يتأمل ذلك يعلم سر تراجع عدد الموهوبين فوق العادة في طلابنا وطالباتنا، وسبب تخلف كثير منهم في الصفوف اللاحقة، حتى الجامعة.
إن الصفوف الأولى (1-3) من الابتدائية تحتاج إلى مزيد من عمق الرؤية في تهيئة البيئة التعليمية، ومزيد من تأهيل المعلمين والمعلمات لمواكبة ما جد في عالم التقنيات المعاصرة التي يمكن أن توظف لاستمرار استثارة الإبداع في نفوس أطفالنا، ورعاية النبتات النامية، فإن الشتلات الصغيرة أسرع النباتات إلى الموت إذا لم تلق العناية التي تتطلبها.
ليس التعليم مجرد نقل معلومة، ثبت عجز الأساليب النمطية العادية أن توصلها إلى أعماق الطالب، ولذلك فهي تتبخر بعد الاختبار، ولا يستمر منها إلا فتات؛ لأنها وضعت على سطح الذهن، بغرض التذكر المؤقت، وإنما التعليم هو نقل خبرة مؤسسة على معلومة، ثم تحويل هذه الخبرة إلى ممارسة عملية حياتية، أو تجريبية، أي أن البيئة التعليمية هي القادرة على الأخذ بأيدي طلابها وطالباتها إلى ميادين الحياة كلها، بدءا من غرس الأصول العقدية، إلى تأصيل الفصحى في جذور لغتهم الناشئة، إلى توجيه السلوك الاجتماعي بكل أبعاده.
في السنوات الأولى من الدراسة يكون استواء الغراس، وتطاول أعناقها، نحو الشمس؛ لتستمد من خيوطها الذهبية نسيج الحياة، فيها مرسم المستقبل، ومختبر الاستكشاف الدائم الذي يشغل ذهن الطفل، والملعب الذي يتدرب فيه الطفل على كل ما يمكن أن يمارسه في المستقبل.
لذا يجب أن تمتد الروضات الناضرة إلى نهاية السنة الثالثة الابتدائية، بمناهج تحترم عقل الطفل، وتلبي احتياجه النفسي، وتكون أكثر جاذبية له من لعبة إلكترونية، وفيلم كارتوني، ومنهجية تستطيع أن تضع أمام باصرته مرآة ناصعة، يشهد فيها تفاصيل نفسه فيعرفها، ويستشرف من ورائها مستقبله، ليبدأ تشكيله من هناك على أيدي مهرة المعلمين، ومبدعات المعلمات.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.