إذا أردنا أن نصل إلى تحقيق النجاح في حياتنا كلها ، فإننا ينبغي أن نفكر جيدا في محضن هذا النجاح الأول وهو هذه النفس التي نحملها بين جوانحنا ، فهي التي سوف تتحمل عبء المحاولة بكل أبعادها وتوابعها ، ومن هنا كان لا بد من العناية الفائقة بإعدادها ، يقول الله تعالى : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) } [سورة الشمس ] .
إذن فالتعلل بالقضاء والقدر لدى الفاشلين في القيام بمجرد المحاولة ليس له رصيد شرعي ولا إنساني ، فالإنسان هو الذي يقوم بعملية صقل النفس وتجهيزها للقيام بمهام تليق بالجنس البشري الذي استخلفه الله في الأرض ، والله تعالى هو الذي يحقق النتائج لمن بذل ، يقول الله تعالى : { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } [سورة العنكبوت 69] . فالذين حاولوا وجاهدوا أنفسهم هم الذين يحصلون على النتيجة المتوخاة ، والمحسن لعمله ، هو الذي يستحق أن يكون الله معه .
إن نفسك هي رأس مالك ، وشخصيتك هي جناحك الذي بيدك أنت تقويم ريشه ، وترتيب أعصابه ، وتقوية قوادمه وخوافيه ، ثم تحريكه والانطلاق به بكل طاقتك التي أودعت في خلاياك كلها بلا استثناء ، وكل ذلك بعون من الله وتأييد ، ومن فقد تأييد الله وتوكل على نفسه أو على أي مخلوق آخر وكله الله إليه ، وأما الجناح الآخر هو بيد الله وحده لا شريك له، لا دخل لك أنت فيه ، وهو الوصول إلى النتائج ، وبلوغ النجاح المرغوب ، وهنا مربط الفرس وبيت القصيد ، هنا الفارق بين التصور العقدي الإسلامي للحياة ، وبين التصور الإلحادي ، الذي يرى أن الإنسان هو مركز الكون ، وهو القادر على كل ما أراد .
وهنا أود أن أؤكد على أن الله تعالى يحب المتوكلين ، ولكنه يكره القاعدين ، والفرق بين الفريقين أن الأوائل يعملون ليصلوا وهم يعلمون أن بلوغ الهدف مرهون بأمر الله وقضائه ، والآخرون يتعللون بالقدر ولذلك فإنهم لا يعملون شيئا ، ولذلك أيضا فإنهم لا يصلون إلى شيء .
إننا ـ نحن المسلمين ـ مطالبون بتحقيق النجاح في كافة مرافق الحياة ، الأمر الذي يجعل الأمة كلها تأثم حينما تفشل في صناعة إبرة تحتاج إليها !!
إذن فالنجاح عندنا أمر ضروري شرعا وعرفا ، وعلينا جميعا أن نحفز أنفسنا حتى نبلغ ذروته ، فالله مدح أول من مدح { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } [سورة الواقعة 56/11] { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ } [ آل عمران 133] { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ } [سورة المطففين 26] {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ } [ الحديد 21 ] .
إن الشخصية المحبوبة عند الله ليست الشخصية الخانعة الذليلة ، القنوعة بالقليل ، بل هي : المسابقة ، المسارعة ، المنافسة ، والعمل الذي تتسابق فيه ليس له حدود قياسية معروفة ، بل هو مفتوح لا حدود له إلا حدود الشرع المطهر ، الذي الحلال فيه هو الأصل ، والمحرم هو المستثنى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) } . { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [ الأعراف 32 ] .
كل ذلك يعني أن الحياة كلها مفتوحة على مصراعيها أمام المبدعين أن يحولوا حياتهم من حياة استهلاكية ، لا تخلف بعدها إلا الرماد ، إلى حياة منتجة ، معطية ، كالغيث أينما وقع نفع وغير وبدل ، وأحال القفر ربيعا أخضر يأخذ بالألباب ، لا لتأنس به العيون فحسب ، وتطرب له القلوب ، وكان ذلك كافيه ، ولكن ليمنح الله به الحياة سبب استمرارها .. { وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30)} [سورة الأنبياء 21/30] .. بلى يا ربنا آمنا فاغفر لنا وأعنا أن نكون ماء الحياة لبني الإنسان جميعا ..
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.