إن من أهم أسرار الحج أنه يربطنا بقدوتنا العظمى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، الذي قال : (( خذوا عني مناسككم )) ، فالمسلم الذي راح يسأل ويتحرى أن يكون حجه كله وفق الهدي النبوي الكريم ، يرجو ألا يحيد عنه ، رجاء قبوله ، ينبغي له كذلك أن يتأسى به في كل حياته ، فالله تعالى يقول في محكم التنزيل : { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، لا شريك له ، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين } . إنها آية عظيمة تضع المسلم أمام حقيقة ربما غفل عنها في خضم الحياة ، وهي أن حياة الإنسان كلها ، بل ومماته يجب أن يكونا وفق نهجه وهديه كما هو شأن صلاته وعبادته المحضة ، يتقفى في ذلك كله أثر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، فلا يستعير منهجا لماله من جهة ، ومنهجا لأسرته من جهة ثانية ، ومنهجا لفكره من جهة ثالثة ، ولا يدع لله إلا ركعات ربما لا يدري ماذا قال فيها ، وصياما فقد حقيقته ، وحجا جهل أسراره ، فعاشه بجسده ولم يعشه بقلبه ، فإن لا إله إلا الله منهج متكامل للحياة كلها بلا استثناء : يقول عمر أبو ريشة معتذرا إلى الله بعد حجه:
أسأل النفس خاشعا : أترى
|
|
طهرت بردي من لوثة الأدران
|
كم صلاة صليت لم يتجاوز
|
|
قدس آياتها حدود لساني
|
كم صيام عانيت جوعي فيه
|
|
ونسيت الجياع من إخواني
|
كم رجمت الشيطان والقلب مني
|
|
مرهق في حبائل الشيطان
|
رب عفوا إن عشت ديني ألـ
|
|
ـفاظا عجافا ، ولم أعشه معاني
|
ومن أسرار الحج كذلك أنه يعطي صورة رائعة للوحدة التي يجب على المسلمين أن يسعوا إلى تحقيقها، فها هم أولاء قد تجمعوا من كل فج عميق، أبيضهم وأسودهم، شرقيهم وغربيهم، عربيهم وعجميهم، غنيهم وفقيرهم لا تجمع بينهم سوى رابطة الدين وحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، يرتدون لباسا واحدا، ويهتفون هتافا واحدا ، ويرجون ربا واحدا. قد ضحوا بأنفسهم فعرضوها لمخاطر الأسفار، وضحوا بأموالهم فأنفقوها راضية بها نفوسهم، وضحوا بأوقاتهم فاقتطعوا منها أياما وربما شهورا، وضحوا بقربهم من أهلهم وديارهم وأسواقهم فتركوها في سبيل الله، وضحوا بجمالياتهم التي كانوا يحرصون عليها ، فتجردوا من كل زينة ليبقوا أياما معدودات بلباس الإحرام المتواضع ، الذي لا مباهاة فيه بين رجل وآخر، ولا مدعاة فيه لعجب أو رياء أو خيلاء ، وتلك تربية للنفس على بذل كل شيء من أجل إرضاء خالقها تعالى ومحبته، ليس في الحج وحده ، بل في سائر أيام العمر.
ومن أسراره ومنافعه تربية النفس على العفاف والأدب العالي، فإن الله تعالى يقول: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، ما تفعلوا من خير يعلمه الله}، فإن من أراد أن يعمل بهذه الآية فعليه ألا يتدنى إلى الرفث، ولا يتدنس بالفسوق، ولا ينطق بالفحش، بل ولا يشغل نفسه بالجدل والنقاش الذي لا طائل وراءه، ولا ينظر نظرة مريبة، ومن يلزم نفسه بهذا كله في أيام الحج ، فإن أثر ذلك سيبقى له بإذن الله بعده، ولو درسا يتذكره كلما مالت به السبل، أو اشتط به الطريق . ثبتنا الله جميعا على صراطه المستقيم.
لعل تلك بعض المنافع التي أشار إليها الله تعالى في كتابه العزيز: {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق * ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات}.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.