حياتنا مجموعة من الاختيارات، ليس دائمًا الأفضل فيها هو الأقرب إلى نفوسنا، بل قد يكون الأشد عليها هو الأفضل. حين نكبر تكبر معنا آمالنا، وطموحاتنا، وتنضج آراؤنا، حينها سنجد أننا بدأنا ننحاز إلى الخيار الأصعب؛ الأكثر مكانة، والأعظم قدرًا، والأعمق أثرًا؛ يعيننا على ذلك بُعد النظر الذي يمتد كلما زادت أيامنا في هذه الحياة، وإن شئنا قلنا: نقصت أيامنا من هذه الحياة.
(الاختيار) قدرة وملكة يتفاوت الناس في مراتبها، فحين نستفتح حياتنا كل يوم تبدأ عاصفة البدائل تصهل في كل جانب، عبادة وسلوكًا وخلقًا ووظيفة وواجبات ونوافل ومكروهات ومحرّمات وشهوات وشُبهات وعلاقات، والأكثر عقلًا هو الأكثر اختيارًا، والأدق انتقاءً؛ وهو في النهاية الأجمل عاقبة بإذن الله وعونـه.
أقل الناس تفعيلًا لملكة (الاختيار) هم الأقل تفكيرًا، حيث تحوّلت حياتهم إلى عقرب رابع للساعة، ليس ثمة إلا دوران فارغ، ثم لا شيء.
نعم.. هناك نفوس مطمئنة، هدأت تقاسيم حياتها حين اختارت أن تعيش لربها، ولكنها تبدأ ـ بعد ذلك ـ مرحلة من التفاعلات التي تفرضها تقلبات الحياة؛ إذ لا يعني طُمأنينة النفس أن تطمئن لها الحياة، أو تستقر لها الأمور، بل على العكس؛ قد تكون هي أكثر النفوس تعرُّضًا للفتنة والاختبار، وهنا تأتي ملكة (الاختيار) التي تتأثر كثيرًا بالحضن الذي تربت فيه، والدَرِّ الذي رضعته، فتكون تفضيلاتها مبنية على هذا الأساس؛ حتى ليمكنك أن تتنبأ بها قبل أن تحدث.
إن الاختيار يدلُّ على العقل والروح معًا، بل قد يحدّد الولاء والانتماء، وهنا تبرز قضيته عنصرًا فعَّالا في بناء المجتمع كله، إذ يعني ذلك مباشرة: أن التربية الأولى، والتشكيل المبكر لشخصية الإنسان، سوف يريحنا كثيرًا من اضطراب شخصية الطفل والشاب في المستقبل بإذن الله تعالى؛ ولا نحتاج أن نتدخّل كثيرًا في اختياراته، بل سوف ينطلق وحده في جميع سلوكاته بالاختيار الأمثل بناء على القواعد والمعايير التي تربَّى عليها.
وهنا تتساقط دعاوى المربّين الذين يحتجون بفتن العصر ومستجداته المذهلة وهم لم يضعوا لبنة واحدة في تلك القواعد المشار إليها سابقًا مع متربيهم، وتركوهم كالألواح تتقاذفهم الأمواج العاتية.
ومما كثر في زمننا هذا هزيمة النفوس أمام جيوش الإباحية والتحلل، وكثيرًا ما تصلني شكاوى الشباب والفتيات خصوصًا تصمُّ الآذان، وتقرع القلوب، كلها يكرر: لم أستطع، لا أقدر، غلبتني نفسي، تبت وعدت، فأين ملكة الاختيار إذًا؟ لماذا لم نستثمرها؛ لنكون جديرين بالبشرية الراشدة، ونختار الخيار الأصعب، ولكنه الأجدى.. حقًا ليس دائمًا الخيار الأصعب هو الأفضل، ولكن حين يكون هو الأفضل فليكن اختيارنا.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.