الأسرة والتكوين الأدبي
بقلم / د. خالد بن سعود الحليبي
ينشأ الإنسان -غالبًا- في وسط بيئة صغيرة، تمثّل له جواز سفر إلى البيئة الكبيرة الشاسعة في المستقبل، وقد ثبت لعلماء النفس أثرُ البيئة في بناء شخصية الفرد، وأكدوا ذلك حين درسوا التوائم المتماثلة في بحوث كثيرة، فظهر لهم “أن التوأم المتماثل يتساويان من حيث العوامل الوراثية، فإذا تربيا في بيئة واحدة، فإن سمات الشخصية لديهما تكون متقاربة إلى حد كبير، أما إذا تربيا في بيئتين مختلفتين، فإن تأثير البيئتين يتضح في اختلاف سمات شخصية كل منهما” كما قال د.حامد زهران.
وهذا التأكيد البحثي يدل دلالة واضحة على أثر التعامل الأسري في تشكيل شخصية الفرد، ومن هذا التشكيل: البناء الأدبي.
قد يمتلك أيّ طفل خصائص وصفات مميزة تجعله يحلّق خارج سربه، لكن ذلك يتوقف على الأدوار التي تلعبها الأسرة، والمؤسسات التعليمية، والبيئة العامة، في ملاحظة تلك الصفات وتحديدها، والعمل مع الطفل من أجل إخراجها وتطويرها وفق مهاراته كما يقرر (ستيفاني ليرنر)، وتبقى الأسرة هي الأهم؛ لكونها الحقل الذي نبتت فيه تلك الشتلة المتطلعة، وهي التي تحيط به معظم وقته، بل معظم حياته، والأكثر وقتًا من المؤثرات، ولذا فهي الأكثر أثرًا في الغالب.
ولو تصورنا أسرة أديبة، ذواقة؛ تضم لفيفًا من الأدباء والشعراء، وتهتم بالأناقة اللفظية، ولها مجالس علمية أو شعرية، تثقّف أبناءها، وتضع بين أيديهم مكتبة عامرة بألوان النتاج الإنساني الرفيع، وتمتلك القدرة على التحفيز والتشجيع، وتراقب دافعيتهم باستمرار، وتسعى لتحفيظهم نصوصًا من ألوان الأدب الراقي، وتفسح المجال أمام تجاربهم، ألا نتوقع أن تتبرعم في هذه الشجرة الظليلة عدد من ورود الأدب، وتتفتح فيها مواهبهم الكامنة، إذا وُجدت؟ وفي المقابل لن تكون كل هذه العوامل مؤثرة إذا لم تتوافر الموهبة في أولئك الأولاد.
ولكن من الضرورة – أولاً- “تحطيم الأسطورة التي تقول: إن الإبداع يخضع لعوامل إعجازية غير قابلة للتشخيص، أو الضبط، أو التوجيه، إذ إن الدراسات الجادة أكدت أن الإبداع يمكن تشجيعه وتنميته وتوجيهه”. كما قال (بيرت).
وكثيرة هي الدراسات التي تؤكد أن القدرات الابتكارية تنمو لدى الأفراد في ظل الاتجاهات السوية للتنشئة الوالدية، وأنه كلما قلّت فرص الضغط والكفّ عن التعبير عن الآراء، وكلما زادت فرص التشجيع وتقبّل النشاطات غير المألوفة للأولاد واستحسانها، كلما نمت الابتكارية.
وكل إحساس يحتاج إلى تربية واهتمام ليستمر مستقيمًا سويًّا، ومن أهم الأحاسيس الإنسانية: الإحساس بالجمال بشتى أنماطه، وتربية الإحساس بالجمال هي “التي ترمي إلى إنماء عاطفة الجمال الكامنة في النفس عن طريقين؛ تقدير الجمال، وإنتاج الجمال -أي الابتكار والإبداع- عند توافر الاستعداد” -كما يقول محمد المرصفي-؛ حيث يبدو تناقل الخبرة بالجماليات التعبيرية والحسية نوعًا من السلوك الذي يتطبع به الفرد عفويًّا، داخل بوتقة البيئة التي تكتنفه من جميع نواحيه.
الأسرة هي المحضن الأول الذي يتشكل فيه الطفل، الذي قد يغدو أديبًا، أو متذوقًا للأدب، أو أي شأن آخر، وفيها تتبرعم قريحته أو تموت، تنمو طبيعته التي خُلق بها، أو تذبل، والأبوان أو من يقوم مقامهما هما اللذان يمسكان بزمام المستقبل منذ البدء بعون الله تعالى.
ــــــــــــــــــ
المقال نشر على موقع جريدة اليوم السعودية، بتاريخ 11- 1-2013م، على الرابط التالي:
http://www.alyaum.com/News/art/68144.html
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.