مشكلات اسرية
كشفُ حساب إنساني
في ظرف خمسة أيام متتابعات، عُرضت علي نحو أربعين حالة في إطار الإرشاد الأسري المهني، شملت مجموعة من الجنسيات العربية من الخليج إلى المغرب العربي مقيمة في بلد عربي واحد، جعلتني في مواجهة مباشرة مع واقع الأسرة العربية اليوم، ومحدِّدات المشكلات التي يواجهها المكون الأول والأساس للمجتمع، وهو (الفرد داخل الأسرة) من خلال عينة جاءت برغبتها للمركز.
لم تعد الأسرة ـ في معظم أحوالها ـ تمثل لبعضها ذلك السياج الواقي، وإن حاولت، ولا النبع المتدفق بالنماء، وإن أعطت، ولا حتى المبضع المعالج وإن بكت وولولت حين يقع الفأس في الرأس، وكل هذا لا يسوغ لها الابتعاد عن وظيفتها ومسؤوليتها وواجباتها، بل يجعل من الواجب عليها أن تطور من قدراتها؛ لتواكب المستجدات، وتواجه العقبات، ويجعل من تكريس العمل لنشر مؤسسات الإرشاد الأسري في كل مدينة واجبا شرعيا ووطنيا.
لم أتوقع ـ وأنا في شبه عيادة ـ أن يأتي غير الذين وقعوا في شراك المشكلات، وتلك ـ وحدها ـ مشكلة معضلة، فإن المفترض في المجتمع المتقدم أن تُزاحِمَ الاستشاراتُ البنائية الاستشارات العلاجية، ولكن يبدو أن عادة الغفلة عن الصحة حتى يُفاجأ الإنسان بالمرض، والغفلة عن الأهل حتى تُفاجأ الأسرة بالمصيبة، هي الأصل، والمسؤولية هنا تقع على كواهل العاملين في مجال التربية والتعليم والأسرة والإعلام أكثر من غيرهم.
واجهت أصنافا من الحالات، فهناك من استيقظ من غفلته على الطلاق، فجاء ليسأل ماذا بعد؟ وكان من الممكن بنسبة: 90% ألا يطلق ـ بإذن الله تعالى ـ لو أنه استشار قبل وصول الحالة إلى الطلاق.
ووجدت من يشكو ولده الذي أصبح مدمنا على مشاهدة الأفلام، مع حرصه على ألا تقع أعين الأسرة على مشاهداته، التي وترت أعصابه، وتسببت في انقطاعه عن تأثيرات الأسرة الإيجابية، بل تسببت في ضعفه الدراسي، وامتلكت كل وقته بلا استثناء، حتى الأكل صار يطلبه على طاولة الجهاز الذي يتربع على عرش قلبه، والمؤلم هو شعور الأسرة بالعجز أمام شاب لا يتعدى سنه أكثر من خمسة عشر عاما!!
وأزعجني كثيرا تكرر حالات ضعف الدافعية لدى الشباب خاصة، ولدى بعض الفتيات، وانطفاء المستقبل في أعينهم، بسبب الإغراق في المظهرية، أو عدم وجود تأهيل تربوي لدى والديهم، يكفي لغرس شتلات الطموح في حقول أرواحهم المتبرعمة.
هناك حالات تهدد بتفصم العلاقات بين البنات والأمهات، وتحولها إلى حرب شعواء، تستخدم فيها الأم وسائل العقوبات التقليدية، التي قد تصل إلى الضرب بحديدة، والحرق في اليد، والدعاء على ابنتها، وهدم ثقتها في نفسها، وتستخدم فيها الفتاة العناد للدفاع عن كيانها البشري، دون المساس بكرامة الأم.
ومن أخطر ما رأيت: التبكير في عقد العلاقات المحرمة، في حالات قليلة جدا، ومن حق المجتمع العربي أن أدق في مسمعيه ناقوس الخطر، قبل أن تتفشى هذه الحالة، وكل أدوات تفشيها متوافرة في أيدي الجيل الجديد من شبان وبنات، وخاصة الهواتف الذكية والألواح الإلكترونية.
ومن أبرز ما رأيت من أسباب المشكلات الأسرية في العلاقات الزوجية والتربوية: الفجوة العاطفية التي تحدث في نسيج الأسرة، وبخاصة إذا انشغل أحد الطرفين عن الآخر، أو لم يتعرف على احتياجاته، أو أعلن أنه لا يرغب في تلبية تلك الاحتياجات لأي سبب. هنا سيبحث عن طرف ثالث؛ ليلبي احتياجات بحجم قد لا يتوقعه الزوج، والزوجة، والأب، والأم (أو من يقوم مقاميهما).
تفشى (الطلاق العاطفي) و(الحرمان العاطفي) حتى أصبح مهددا حقيقيا لأمن الفرد والأسرة والمجتمع، مع أن المفقود هو مجرد كلمة طيبة، ولمسة حانية، وحضن دافئ طاهر، واهتمام مستمر.
لقد كنت أتألم مع كل حالة، وبخاصة إذا أثمرت العلاقة الأسرية الخاطئة اضطرابا نفسيا، ومرضا بدنيا، وتلك تمثل أكثر من 80% من أمراض الناس عموما.
وأعلم أن تألمي لم يكن ينفعهم شيئا، فتوجهت لتقديم الحلول؛ ممزوجة بالحث على الصبر والدعاء، وكانت الاستجابة والنتائج مطمئنة، ولكني أعلم ـ أيضا ـ أني لم أعالج سوى أربعين حالة من ملايين الحالات.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.