يمكنك أن تنسيني كل شيء.. إلا..

في القرب من الأم أمر آخر

يمكنك أن تنسيني كل شيء.. إلا..

د.خالد الحليبي

سجل التاريخ أسماء كالشموس للكون، بل هم ـ والله ـ الذين سجلوا التاريخ، ولو سألت من صنعهم على عين الله لوجدتَ كفين مغضنتين، مرة تدعوان، ومرة تربتان، ومرة تطبخان، ومرة تعلمان، (الأم) تلك الأيقونة السحرية، التي تلمسها فتنسكب بكل ما تحتاجه النفوس لبلوغ أهدافها بإذن الله -تعالى-.

إن مجرد (الحديث) مع الأم له تأثير يتطابق مع تأثير العناق، وقد يساعد في خفض مستويات التوتر بشكل كبير! بل أشارت دراسة ألمانية إلى أن تحدث الشخص مع أمه يعد من أفضل الطرق للتخلص من التوتر والاكتئاب والحصول على الاطمئنان والراحة النفسية.

كل ذلك يحدث لولدك ولك حين يتحدث معك، أعلم أن الأم تحب كل هذه المنافع الصحية لولدها، بل أعلم جيدا بأنها تتمنى أن يستمع إليها ابنها وابنتها وهي تتحدث إليه، وفي هذه صحة لها هي أيضا، وإن كنت لست طبيبا، وإنما أردت أن أقول لها: تحدثي إلى ولدك كثيرا، واسمعيه كثيرا، وليكن هذا الحديث بينكما مملوءا حبا وعاطفة، ومكتظا علما ونفعا وتوجيها، بكل رقة وحزم في وقت واحد.

تلك الملازمة والصحبة الطويلة الممتدة التي حثَّ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أكثر من حديث، الشباب عليها مع أمهاتهم، ليست ملازمة فارغة من المضمون، بل هي خدمة وبر وتقدير وأخذ واقتداء وتشاور، والتربية بالمصاحبة أصل عظيم من أصول التربية قديما وحديثا، حتى قال الرئيس الأمريكي نيكسون: “يمكنك أن تنسيني كل شيء.. إلا ما تعلمته من أمي“.

بل في القرب من الأم أمر آخر، لخصه الفيلسوف اليوناني في كلمات يسيرة فقال: “لم أطمئن إلا في حجر أمي”. الأمن النفسي الذي يجعل قواد الحروب والفاتحين الأبطال يجدون أنفسهم في لحظة من لحظات الضعف والخور، ينكبون على أحضان أمهاتهم، ليجدوا فيه السكينة التي لا يمكن أن يحسوا بها وهم وراء الأسوار العالية من البناء والرجال والسلاح.

وتلك مراثي الأمهات، عذبة، راقية، صادقة، محرقة، محتقنة، مشرقة، تفيض بالحزن والوفاء، وتعدد من الفضل ما لا يمكن أن يؤخذ من غيرها.

إن الولد ثمرة من ثمار شجرة (الأم) فما تغذت به فسوف يظهر في لونه وطعمه ورائحته، وما تسقيه به فسوف تراه في شخصيته وسلوكه، وما ترسمه له فسوف يتبلور في مستقبله بإذن الله -تعالى-.

الشيخ محمد الخضر حسين (الأخضر)، وهو عالم تونسي، من مواليد مدينة (نفطة) بتونس عام 1293هـ، 1876م، وأصل أسرته من الجزائر، من عائلة العمري، وأصل أمه من (وادي سوف) بالجزائر أيضًا، وأبوها هو الشيخ مصطفى بن عزوز وخاله الشيخ محمد المكي بن عزوز، أي أن أمه من شجرة مشيخة وعلم وفضل، وأبوه كذلك.

الشيخ محمد الخضر حسين يعدُّ العالم الوحيد الذي تولى مشيخة الأزهر من خارج مصر، فقد اختير شيخا للأزهر في آخر شهر ذي الحجة عام 1471هـ (سبتمبر 1952م)، واستقال بسبب ضم القضاء الشرعي إلى القضاء المدني ودمجه فيه، وذلك في جمادى الأولى 1373هـ (يناير 1954م)، فهل كانت هذه المشيخة محض موافقة، أم أنها هدف تأصل في نفسه منذ أن كان يسمى الأخضر في حجر والدته ـ رحمها الله ـ وهي تهدهده وتقول له: “يا الأخضر يا.. يا الأخضر ..يا بكره لما تكبر .. وتصير شيخ الأزهر“.

لا تتصور أم بأن عالما أو مبدعا في أي علم من العلوم والفنون أصبح عالما أو مبدعا بمجرد أمنية تطلقها أم، وإنما الأمنية هي قدح الزناد لضياء لا حدود له بإذن الله -تعالى-.



اترك تعليقاً