التعايش
سمة الوطن المتحضر
بقي مصطلح التعايش يرجف على أعواد الشك والارتياب لدى عدد من الأطراف المختلفة في الجوانب العقدية أو حتى الفقهية، وتلقته بعض العقول بتردد أو حتى بالرفض نظرا للشخصيات التي كانت ولا تزال تتحدث عنه، أو تدعو إليه، أو تُنظِّرُ له، ثم غاب تماما حتى وقعت كوارث الدالوة والقديح والعنود، فهبَّ من غيبوبته؛ لما أصبح له من الحاجة الماسة، والضرورة القصوى؛ لحفظ الضرورات الخمس.
كثيرون لا يدركون المعنى الحقيقي لـ(التعايش)؛ لذلك يقعون في إحدى إشكاليتين: الأولى: رفض المصطلح؛ لأنهم يظنون أنه سيفقدهم خصوصيتهم، أو أنه سيُحمِّلهم تبعات شرعية وعقدية، أو أنهم سيتنازلون ـ بسببه ـ عن جزء من مكونات معتقدهم؛ ليحققوا الاندماج بالآخر؛ ظنا منهم أنهم الاندماج التام.
والإشكالية الأخرى: فهم المصطلح بأنه يوجب على الآخر أن يتخلى عن رؤيته العقدية للطرف الآخر تماما، وأنه يعني ـ كذلك ـ وجوب التخلي عن كل ما يختلف فيه كل طرف مع الآخر، ولذلك يكثر من الإلحاح عليه بأنه لن يكون متعايشا إذا لم يقدم هذه التنازلات.
بالعودة إلى تاريخ المصطلح فإن بعض المصادر تشير إلى أنه بدأ في التداول في العصر الحديث حين دعا إليه (خروتشوف) عقب وفاة ستالين، ومعناه انتهاج سياسة تقوم على مبدأ قبول فكرة تعدد المذاهب الأيديولوجية والتفاهم بين المعسكرين (الشرقي والغربي) في القضايا الدولية، كما تدعو الأديان كافة إلى التعايش السلمي فيما بينها، وتشجيع لغة الحوار والتفاهم والتعاون بين الأمم المختلفة.
مبدأ التعايش السلمي في المجتمع الإسلامي بدأ منذ العصر النبوي؛ حيث قرره رب الناس أجمعين في سورة (الكافرون): {لكم دينكم ولي دين}، «لا يضركم من ضل إذا اهتديتم»، ومفهوم الآيتين أن المسلم يدعو غير المسلم إلى الإيمان بمعتقده الذي يجزم بأنه هو الحق، ولا حق سواه، ولكنه لا يجبره على اعتناقه: «لا إكراه في الدين»، وإذا عاش المخالف في المعتقد في ظل حكم الآخر؛ سواء اختلفا في الدين أو المذهب، فإنه يؤمَّن على حياته وماله وأهله وعقله وعرضه، وحرية اعتناق الدين الذي يريد، ولا يجوز المساس به، ولا الاعتداء عليه، ولا ظلمه، فضلا عن إزهاق روحه وترويعه.
(التعايش) سمة حضارية تعني: أن أعيش بأمان مع الطرف المخالف، أتفق معه على المشتركات الأمنية والحياتية الكثيرة جدا، وأقدر فيه إنسانيته، وأحترم آراءه التي لا يصدمني بها في معتقدي، ولي أن أرفض تهمه، وأدافع عن معتقدي بالحكمة والموعظة بالتي هي أحسن، والحوار الإيجابي، ولذلك فإن مراجعة كل من الطرفين ما يوجهه إليه الطرف الآخر من أسباب النفور والاحتقان مطلب عقلي، ويجب أن تكون المرجعية مرجعية متعقلة كذلك، لا تبحث عن مواطن الشقاق، ولا تبعث الأحقاد التاريخية بين الطرفين، ولا تغذي الكراهية، ولا تركز على الأحكام الموجعة للطرف الآخر، ولكن تبحث عن كل ما يُهدئ المشاعر، ويوجب السكينة والوفاق السلمي بينهما.
هناك مصالح مشتركة ترتبط بها خيوط الحياة كلها، إذا اختلت، سيدفع الطرفان الثمن باهظا، ولن يكون هناك منتصر سوى الموت والخراب والشيطان.. لا قدر الله.
(التعايش) ثقافة يجب أن نغرسها بفهم صحيح في نفوس الناشئة، وأية محاولة لتبديل معنى التعايش الحقيقي، الذي يحتفظ فيه كل طرف بمعتقداته التي يؤمن بها، ويترك للآخر ما يؤمن به، إلى معنى آخر من هدم الحدود تماما، أو التهوين من شأن المعتقد الديني، فإنه لن ينجح، وسوف نضيع الوقت في غير ما طائل.
ولا شك أن أي مفهوم جديد على المجتمع ـ وخاصة إذا مس الدين والوطن ـ سوف يأخذ حقه من الجدل، والاختلاف في وجهات النظر، وسوف يكون له معارضون أقوياء من الطرفين، ولكنه في النهاية ـ إذا لم يخالف أصول المعتقد لدى الطرفين، فإنه سينتصر بإذن الله تعالى.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.