موقعي خزانتي

موقعي خزانتي

د. خالد الحليبي

«مرحبا بك أخي الزائر الكريم، أختي الزائرة الكريمة في مجلس عقلي، ومكتبة عمري، ومسرح خيالي، وميدان قلمي، وسماء روحي، ومنطلق رؤيتي.

بين أيديكم الكريمة غالب ما يسر الله لي من نتاج علمي، وأدبي، ودعوي، وأسري، تلك اهتماماتي الأربعة، التي أرجو أن أكون قد قدمت لها ما يخدمها ولو قليلا، وما ينميها ولو يسيرا، وما يحولها إلى حياة نابضة، لا إلى حروف هامدة.. بحيث تكون أطول عمرا من عمري.

تسعدني خطوات أناملكم على لوحات الأحرف، تتخير ما تتوخى فيه فائدة ما، ولكني أرجو أن أسعد بانطباعاتكم وآرائكم وانتقاداتكم لما تقرؤونه، فبمثل ذلك أنمو وأسعد».

كلمات تصدرت (موقعي الشخصي)، جبلتها من طين أملي، الذي جمعت ترابه من خمسين سنة مرت من عمري، لا أدري من كان ينقر بأصابعه على رؤوس الحروف وأنا أنظر إلى الكلمات تتراقص على شاشتي، وهي تقرؤني، وتتقافز بين عيني وهي تتقرى مشاعري، وتعبر في شعيرات دمي فتضخ فيها مادة من قارورة سر الخلود، لكني شعرت بأروقة الحياة تتخلى عن سقفي، وبسماء تتعرى من كل غيومها تتفتح أمامي.

قد لا يبلغ الأمر هذا المبلغ لدى المتلقي الذي يهديني جزءا من عمره الآن؛ فيتصفح ما بذرته في حقلي/ موقعي، ولكني ـ وأنا أقدر له ذلك ـ لا أفرض عليه أن يتلقاني كل هذا التلقي، وهو يتفسح في غواصته، وينظر من خلال نافذته النافذة؛ فيرى من حوله المرجان الأحمر، والقِرش الأغبر، ولكني موقن بأن هناك من سيجد شيئا يبحث عنه، ولو بعد حين.

لست هنا أسوق لموقعي الشخصي، ولكني أرجو أن أستطيع أن أحفزَ بعض قرائي ممن يمتلكون ذخيرة من الكتابة الإبداعية أو البحثية؛ ليصنعوا لهم بوابة على التاريخ القادم، ليس مهما أن تكون لديك ـ الآن ـ قبيلة من القراء، ولا بحر من المشجعين، ولا صفوف من المريدين، ولا نظّارة من المشاهدين، ولكن المهم أن تقتنع بأن لديك ما يمكن أن يجد فيه إنسان ما، في عصر ما، نفسه، أو ما يلتقي مع همه، أو ما يجيب عن تساؤل لديه، أو حتى ما ينسخه ـ دون إذن منك ـ لينتحله لنفسه؛ فيخطب به في الملأ، أو ينسخه في رسالة شخصية إلى من يحب.

الكاتب الصغير هو الذي لو جمع ما كتب، وأراد أن يصدره في كتاب لتطاير أكثر من نصفه؛ لأنه أصبح معلقا على الأخبار وحسب، وربما لم يشعر بذلك؛ لأنه في غمرة من احتفاء الآخرين بما يكتب، لا يسمع الصوت العميق في داخله من شدة أصوات التصفيق التي تدوي من حوله.

لكن الكاتب الكبير هو الذي يستطيع أن يستل من تلك الأيقونات المؤقتة، لوحة فنية إنسانية خالدة، يفك عنها ضيق اللحظة، ويطلق حمامتها في أجواء رحيبة، لا تقف أمامها سدود، ولا تقوى على تكبيلها قيود، ولذلك فإنه قد لا يكون مقروءا في عصره بقدر ما يكون مقروءا في عصر قادم، يعيش فيه أكثر مما عاش فيه عمره.

(الموقع الشخصي) هو خزانةُ مَن كتب عليهم أن يكونوا عيون مجتمعاتهم، وعقول أممهم، وأقلام حضاراتهم، يغنيهم عن أن يكونوا مجرد ضيوف في مواقع عامة مشتركة، أو على هوامش اهتمامات الآخرين.

(الموقع الشخصي) يجعل الكتاب الذي يطبع منه بضعة آلاف ولا يشتريه إلا بضع مئات من محبي اقتناء الكتب، ولا يقرؤه إلا عشرات منهم، يجعله متاحا للتحميل والقراءة بقدر يذهل الكاتب، فإن كتابا لا يتوقع أن يباع منه أكثر من ألفي نسخة، يقرؤه ـ على الشبكة الذكية ـ عشرات الألوف، ويعلقون عليه.

إن (الموقع الشخصي) يمكن أن يتحول إلى (وقف لله تعالى) ينفع الله به الناس على مر السنين، لو استطاع الكاتب الفرد أن يحوله إلى مؤسسة صغيرة، ويجري لها شيئا من ماله الثابت، فينال منه من الأجور ما لا يمكن حسابه، ومن يدري فقد تتبنى مؤسسة خيرية مثل هذا العمل؛ فيكون لها مثل أجره وأجر أمثاله.

الفوضى والإهمال لدى بعض الكتاب لما يكتبون، يحولان أرصدتهم إلى هباء إذا لم يتخذوا لها خزائن تحفظها بإذن الله تعالى.



اترك تعليقاً