عرفة .. وموقف أمة

عرفة .. وموقف أمة

 

في مشهد مهيب يتحلق فيه مائة ألف مسلم، حول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو على جبل عرفة في المشاعر المقدسة، في مثل هذا اليوم التاسع من ذي الحجة، فخطب فيهم خطبة تعد دستورا كاملا للحياة الإنسانية، قال فيها: “أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا”.

تكثفت كل حقوق الإنسان في كلمات تؤكد حقيقة (الإسلام) دين البشرية الخالد، مرتكزا على أكثر ما يتصارع عليه البشر: الدماء والأموال، فجعلها حراما حرمة مغلظة، إلا بحقوقها المقررة بنصوص قطعية ثابتة، ورتب عليها (القَصاص) الذي وصفه الله بأنه (حياة)، داعيا إلى العفو والمعروف والفضل بين الناس.

وبعد مرور خمسة عشر قرنا، تقف المملكة العربية السعودية شامخة أمام من يصمت أمام المذابح التي يُنحر فيها المسلمون نحر الشياه في أصقاع كثيرة من عالمنا العربي والإسلامي، ويتعامل معها بدم بارد، وقلق مصطنع، ولا ينطق إلا حين تقتص من القاتل، وتنتصر لمن حُرم من حق الحياة ظلما وعدوانا، تقف المملكة ويقف معها مليار ونصف المليار مسلم لتقول أمام مجلس حقوق الإنسان: “إنها لا تتفق مع تقرير الأمين العام للأمم المتحدة بشأن مسألة عقوبة الإعدام، وما تضمنه من نتائج وتوصيات، حيث يجب ألا تنسينا الدعوات لوقف أو إلغاء عقوبة الإعدام حرصا على حق القاتل، حقوق الأطراف الأخرى التي انتهكت من قبل الجناة”. وبقوة وسموق عرفناهما من شعار المملكة العربية السعودية الذي يحتضن فيه سيفا العدل نخلة النماء، قال سفيرها لدى الأمم المتحدة في جنيف فيصل طراد: “إن المملكة العربية السعودية دولة إسلامية، ذات سيادة تامة، تفتخر وتعتز بكون الشريعة الإسلامية دستورًا ومنهاجًا لها، حيث كفلت الشريعة الإسلامية العدالة، وحفظت الحقوق للجميع دون تمييز، كما حرصت على ضمان حق الحياة للجميع، وحرمت قتل النفس. وجعلت من القصاص أداة للعدل وضمانا لحق الحياة ومصالح المجتمع العليا، فالقتل قصاصا هو من باب المماثلة العادلة للجاني بمثل ما جنى به”.

ثم جاء تأكيد السفير على أن المملكة بأنظمتها “المعمول بها فيها كفلت هذه الحريات، وضَمِنَت ذلك على ألا يؤدي التمتع بهذه الحرية إلى انتهاك حقوق الآخرين أو تهديد الأمن الوطني أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة، وتأمل من الذين يرحبون بقيام بعض الدول بإلغاء عقوبة الإعدام أو وقف تطبيقها، عدم استنكار وجودها في تشريعات 97 دولة من دول العالم”، بل طالب بكل قوة أن يثبت موقف المملكة الرافض كما تثبت المواقف الموافقة.

إن الاتفاقات الدولية رهينة فكرِ من يضع بنودها، ومن الغريب أن تعرض على الدول ذات السيادة والعقيدة عرضا شبه إجباري، يجعلها ـ حين ترفضها أو تتحفظ على بعضها ـ في قائمة غير مرضية، مع أن بعض الدول الكبرى لا توقع على بعضها أحيانا، أو لا يُصادق عليها من برلمانتها، وما الكيان الصهيوني إلا مثال حي على ذلك، فإن عددا من الوثائق الدولية رفض التوقيع عليها، بسبب مرجعيته التلمودية، ومقررات عقيدته الفاسدة.

وفي هذه الأيام يجد عددٌ من الدول الإسلامية نفسها أمام اختبار جديد أمام توقيع اتفاقية: (خطة التنمية المستدامة)، وقد عنونت بما يغري بها، ويمررها بين الشعوب على مختلف مرجعياتها الدينية والفكرية، وكان الخيار أمامهم إما أن يقبلوها كلها، أو لا يوقعوا عليها.. فلا أدري كيف ستوقع دولة مسلمة على بنود تسمح بتحديد النسل، والشذوذ، والإجهاض، وعدم مؤاخذة الزناة بالتراضي، وإلغاء الفروق الفطرية بين الجنسين، ووضع القيود على الزواج الشرعي، ومثل ذلك من المخالفات الشرعية والفطرية الظاهرة، مما قد يحدث معه انتكاسة بشرية، لا يعلم مداها إلا الله خالقها، الذي أوجد الخلق، ودبر شؤونهم، ووضع لهم التشريع الذي يصلح شأنهم كله.

إننا لننتظر موقفا مشرفا ممن يمثلون أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يذكره التاريخ، ويوقف مد العري والانسلاخ من الفطرة، ويعيد إلى الإنسان كرامته وشرفه وإنسانيته.



اترك تعليقاً