أيتها الأمهات.. التربية لا تُفوَّض

أيتها الأمهات.. التربية لا تُفوَّض

د. خالد الحليبي

في تقرير لهيئة الصحة العالمية، أكد أن كل طفل مولود يحتاج إلى رعاية أمه المتواصلة لمدة ثلاث سنوات على الأقل، وإنَّ فقدانَ هذه الرعاية يؤدي إلى اختلال الشخصية لدى الطفل، كما يؤدي إلى انتشار جرائم العنف، الذي انتشر بصورة مريعة في المجتمعات الغربية.

إذن، ما تقوم به الأم من تربية ورعاية لا يمكن أن يُفوَّض لأحد من الناس، مهما كانوا قريبين ومحبين، وإن التربية الوالدية من الأم بالذات هي أمان بشري، وليس فقط مخرجا ذاتيا لها، وأنها ضرورة إنسانية، وليست مجرد عمل رتيب تضطر إليه.

ومن أجل ذلك، فإننا لن نعدم النماذج المثلى التي تحقق هذا الهدف السامي الكبير، وإذا يسر الله لأحد الذين تربوا في حضن أمٍّ عظيمة قلما سيالا، وكتب عنها، كما فعل الأستاذ الدكتور بشير الرشيدي في كتابه: (لعيون نورة)، والأستاذ الدكتور طارق الحبيب في كتابه: (علمتني أمي)، والأستاذ الدكتور عبدالله الطيار في كتابه: (أفول شمس)؛ فسنجد جنبات الجوهرة تتقاذف الأنوار والألوان والظلال. يقول الطيار في آخر كتابه (أفول شمس): «من له أم كأمي؟! الأم عظيمة في نفسها، صابرة على محنتها، قائمة بما أنيط بها، أرقُّ الناس قلبًا على أولادها، وأكثرهم حنوًّا عليهم،… صاحبة همة علية، وقلب قطَّعهُ الأسى والحسرات، لكن زيَّنه الصبر، وجمَّله الرضا، وثبَّته التعلق بالله؛ فلا تراها إلا حامدة شاكرة، مصلية صائمة، داعية واعظة، مجلسها يعمر بالخير، ولا مكان فيه لأصحاب الغيبة والنميمة».

ومما لاحظته في أمهات العظماء أنهن كن زوجات عظيمات أيضا، تحب زوجها وتضحي من أجله، وتسانده في كفاحه في الحياة، وتوفِّي له بعد موته إذا سبقها إلى مولاه.

وقد مر بي ـ وأنا أبحث في سير المؤثرين في العالم ـ غير قليل من هؤلاء النساء من كُنَّ نماذج مضيئة في هذا الشأن. فكلما اقتربت من شرفات بيوت العظماء، سمعتُ هدهدات الأمهات المفعمة بالطموح والتحفيز والأمل الكبير، مشفوعة بكلمات كبار، لأطفال صغار، أسهمت في تشكيل وعيهم، وبناء قدراتهم، وتوجيه بوصلة الأهداف في حياتهم ـ منذ وقت مبكر ـ نحو شمال لا يعرفه غير النبلاء.

مؤمنٌ ـ من خلال ما رأيت وسمعت أكثر مما قرأت وتعلمت ـ أن قدرات التربية الوالدية فطرية، وأن هناك من الأمهات من وُهبن ملكة التنشئة كأنما تعلمنها وتدربن عليها، ولذلك نجحت أمهات أُميات في بناء قامات عالية في شتى ضروب المعرفة والقيادة، وفشلت أمهات متعلمات في الحدّ الأدنى من التربية.

ولكنَّ ذلك لا يعني أن الأفضل الأم الأمية، بل إن الأم المتعلمة تمتلك ما لا تمتلكه الأم الأمية بلا شك، على أن تبقى وفية لمهمتها الأولى، ولا ينحو بها الطموح العلمي والعملي بعيدا عن وظيفتها العظيمة، وهي أن تبقى أمًّا، وأمًّا فحسب.

كما أن التربية ـ كغيرها من فنون الحياة ـ مهارة تحتاج إلى تعلم وتدرب، فتزيد القدرات الفطرية قوة ورسوخا، وتكتسب الأمُّ ما لم تفطر عليه من المهارات، وبخاصة في زمن أصبح فيه الأولاد في مهبِّ تيارات وأهواء ومغريات وصوارف ومؤثرات تأتي من خارج المنزل، وتتسم بقوة الجاذبية وعمق التأثير، فكان من الضروري جدا للأم أن تتعلم وتتدرب وتستعد لكل هذه المؤثرات؛ لتوظيف الجيد، وصد الرديء.

ومما ظهر لي من أمهات العظماء أنهن كادحات، فهذه تنقل قدور الماء على رأسها، وتلك تخدم الأثرياء من أجل توفير الغذاء لأطفالها، وثالثة تعول أولادها بمغزلها وإبرتها لتفرغ أولادها لتحقيق أهدافهم في هذه الحياة؛ بصحبة رائعة دافعة ماتعة.

 

إن حديث الأعلام والعظماء والناجحين عن أمهاتهم بعد أن يتسنموا أعلى المراتب، ويحققوا أعظم المطالب، يكون متسما بالاعتراف بالجميل، وتحليل بعض الأعمال التي كانت الأم تقوم بها بدافع من حبها الكبير وفطرتها القويمة، وحين تتبصر أمهات اليوم هذه الصور الجميلة العذبة، فإنهن ـ حتما ـ سيجدن أنفسهن أمام مشروع قد درست جدواه، وجربت حلاوته وفحواه، وانهمر خيره انهمار الغيث على الأرض الخصبة.



اترك تعليقاً