المتطوعون.. ماذا عن الأسرة؟ «2»

المتطوعون.. ماذا عن الأسرة؟ «2»

د. خالد الحليبي

يتهرب بعضنا من النقد الذي يكشف له خلل حياته، لا لأنه لا يرغب في أن تكون حياته مستقيمة سديدة متكاملة، ولكن لأنه لا يرغب أن يفرغ لهذا الخلل؛ ليسده، فهو مستمتع بانهماكه في عمله، وأحيانا يظن أنه مجبر بأن يكون ورقة في نهر وريشة في ريح، وأنه لا وقت لغير العمل، حتى يُصاب بما يسمى (العمل الـمـَرَضي)، بحيث يمتلكه العمل، ويحسُّ بأعراض انسحابية حين تطل عليه إجازة نهاية الأسبوع، وتحل عليه المصيبة حين تقع على صدره إجازة طويلة لأي سبب من الأسباب.

وهذا الشعور قد يوجد في العمل الرسمي المحبوب، ولكنه منتشر في العمل التطوعي والخيري؛ لكون دافعه ذاتيا اختياريا، ولذلك تحدث مجموعة من المشكلات الخفية، وتبقى وراء الكواليس حتى تظهر فجأة على المسرح وقد كبرت وأصبحت هي الحدث الأكبر في حياته، وهناك قد يخسر كل شيء.. كل شيء..

والمخدر الأكبر الذي يجعل النفوس بعيدة عن حقيقة الوضع القائم، هو هذه النجاحات المتتابعة التي يحققها المتطوع، وتلك الثناءات والدروع والشهادات التقديرية، والتقارير الصحفية، التي تحيط به من كل جانب، وحتى الأدعية المباركة التي تنطلق من قلوب المستفيدين بكل صدق وعفوية وحب ويُرجى عند الله تعالى قبولها، قد يخطئ المتطوع في الاستجابة لأثرها بأنه يرغب في استمرارها، ولذلك لا حرج عليه إذا استمر فيما يستنبتها على ألسنة الناس، حتى ولو فرّط في مسؤولياته الأخرى، التي لا يمكن لأحد أن يقوم بها غيره، فيقع في المخالفة الشرعية من حيث لا يعلم.

مؤمنٌ بأن كل شيء في معين الحياة ينضب إذا لم تزوده بمثله، أو بما يغذيه، والعمل التطوعي عمل متجدد الاحتياج، متجدد الوجهات، متجدد المستفيدين، ولذلك فإن على من يقوم به أن يكون قادرا على التجدد باستمرار؛ ليكون قادرا على الثبات في أرضه الطاهرة الخصبة، ولن يتحقق هذا الثبات بالعطاء الناضج إلا إذا توافرت عناصر التوازن بين مسؤوليات ثلاث: مسؤوليته تجاه نفسه، ومسؤوليته تجاه أهله، ومسؤوليته تجاه مجتمعه.

ورسول الأمةـ صلى الله عليه وسلم ـ يضع قاعدة لهذا التوازن: «إن لنفسك عليك حقًّا، وإن لزوجك عليك حقًّا، وإن لربك عليك حقًّا، فأعط كل ذي حق حقه».

والذين لا يستجيبون لهذا التأصيل النبوي الكريم، ولا يعملون على تحقيق التوازن بين مسؤولياتهم، فإنهم سيفقدون نعمة الاستقرار في حياتهم الخاصة، ويفقدون ـ معهاـ القدرة على الاستمرار في عملهم التطوعي.

التمتع في الحياة بالطيبات هدف مشروع، والمسؤولية الشخصية هي الأولى بين كل المسؤوليات الأخرى، وإذا عُني بها المتطوع، فإنه سيكون قادرا على القيام بالمسؤوليتين الباقيتين، فإهمال النفس من التربية الإيمانية، يجعلها صخرة صماء لا نداوة فيها، وإهمالها من التربية العقلية يجعلها جِرابا قديما لا جديد فيه، وإهمالها من التربية العاطفية يجعلها غليظة الحواشي لا تلين في يد أحد، وإهمالها من التربية الجسدية يجعلها هشة لا تتحمل أي جهد.

وإذا كان على المتطوع أن يوازن بين مسؤولياته الثلاث، فلابد أن يوزان بين عناصر كل مسؤولية، فلا يطغى ـ في المسؤولية الشخصيةـ جانب الاهتمام بالجسد على جانب الاهتمام بالروح، ولا يهتم بعاطفته على حساب عقله، وهكذا بقية الجوانب الأربعة.

حتى الذين يعتقدون بأن من الإيثار غمطَ النفس وتغليبَ مصالح الناس لابد أن يقتنعوا بأن اهتمامهم ببناء شخصياتهم وتجديدها هو في صالح من ينفعونهم ويقومون على مصالحهم.

وفي مسؤوليته تجاه أهله، عليه أن ينسج من علاقته بزوجه وولده برودا من السعادة، والنماء، والارتقاء في سلم النجاحات، فهو يحبهم، ويخبرهم بأنه يحبهم، ويسعى في صلاح علاقتهم بخالقهم؛ ليجمعهم الله في جنته كما جمعهم في أرضه، ويستثير بينهم علائق الود والرحمة والشراكة الكاملة في كل منحنيات الحياة، العلوية والمنكسرة؛ ليكون نجاح كل منهم نجاحا لهم جميعا.

من طبيعة المتطوع أنه لبق في المعاملة، لطيف في القول، هادئ في تلقي المواقف التي قد تغضب غيره، يعالجها بالحكمة والصبر والكلمة الطيبة، والنصيحة الدافئة، فيكون القدوة الحسنة حتى لمن اختلف معه. وكل ذلك حسنٌ أن يكون مع الناس، ولكنه مع الأهل (الزوجة والولد) أولى وأهم. وإذا كان العمل التطوعي من الإمامة للناس، فهو يقودهم لما فيه الخير لهم في المجال الذي يعمل فيه، فإن الله تعالى قدَّم لها بقوله: «ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما».

 

كل ذلك لأقول في مسؤولية المتطوع الثالثة تجاه مجتمعه، بأنها شرف عظيم، وعمل كريم، ينبغي أن تكون هوى المتطوع، وهدف حياته، ويودعها ما يرجوه عند ربه من أجر ورفعة درجات في جنات عدن، ولذلك فإنها تستحق أن يخصها بالجهد والوقت والابتكار والتدرب والتأهل ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، مع الحرص الدائم على حفظ التوازن بين مسؤولياته الثلاث.



اترك تعليقاً