نجاح موسم الحج.. نصر وفرح

نجاح موسم الحج.. نصر وفرح

د. خالد الحليبي

أتعرف كيف تختلج الأنامل على لوحة المفاتيح، كما تختلج الألسنة بين الشفاه؟!

هو ما حدث لي وأنا أحاول أن أرسم لوحة الفرح بعد أن طوى اليوم الرابع عشر من ذي الحجة صحيفة موسم الحج هذا العام، بمكونات وألوان تختلف عن كل ما يستخدمه الرسامون عادة في نقش لوحاتهم، لأن المحتوى ليس شيئا يمكن أن تؤطِر جمالاته نظرة فنان، ولا رقصات فرشاة على لوحة جامدة.

لقد كان الإحساسُ الموحد هو انتصار النور على الظلام، والسلام على الإرهاب، والحب على الكراهية، والإرادة الإيمانية على إرادة الشيطان وحزبه، والتوكل على الله – تعالى – على التواكل والأنانية، وأدعية مليار مسلم ترفرف في أجواء كوكب الأرض لوفود طلائعهم التي هبطت مكة المكرمة من كل فج عميق رجالا وعلى كل ضامر وطائر وسابح، ليشهدوا بأعينهم كيف تحول مئات الآلاف من العسكريين والمدنيين إلى فريق عمل واحد، يقودهم حبهم لله – تعالى – وطاعتهم لقيادتهم وأولياء أمورهم، ليقدموا كل ما يستطيعون، وفوق ما يستطيعون لعباد الله المؤمنين، ووفوده الحاجين، الذين ركضوا إلى الله – جل وعلا – في ساحات المشاعر، يتقلبون بين بطن مكة، وعرفات ومزدلفة ومنى، حيث يأمرهم خالقهم – تبارك وتعالى – وحيث خطت أقدام المصطفى (صلى الله عليه وسلم) ممتثلين أمره: «خذوا عني مناسككم».

إنهم «وفدُ اللهِ دعاهم فأجابوه وسألوه فأعطاهم»، فمن أكرمهم نال شرفي الدنيا والآخرة، ومن أهانهم أو هددهم أو أصابهم بسوء، فله خزيا الدنيا والآخرة، قال تعالى: {ومن يُرِد فِيهِ بِإِلحادٍ بِظُلمٍ نُذِقهُ مِن عذابٍ ألِيمٍ} [سورة الحج 22/25].

والمتأمل في أسرار النجاح هذا العام سيجدها ماثلة في توفيق الله – تعالى – لحكومة بلادنا أيدها الله وأعانها على واجبها الأحب إليها تجاه حرم الله – تعالى – وحجاجه ومعتمريه، حيث إن عمارة الحرمين الشريفين، وتطهيرهما للطائفين والعاكفين والركع السجود، شرفان تتقلدهما، وكرامتان تفخر بهما، فجعلتهما أولى أولياتها الإستراتيجية، وسخرت لهما كافة الإمكانات العملاقة، وإن تكامل المشروعات الكبرى في الحرم والمشاعر، وتراكم الخبرات عبر عقود له أثر كبير في تنامي مؤشرات النجاح، حتى وصلت إلى هذه الدرجة العليا من النجاح الذي أبهر العالم هذا العام.

ومن أسرار النجاح هذا التناغم بين كل قطاعات الدولة من جانب، وبينها وبين المؤسسات الأهلية العاملة في ساحة الحج من جانب آخر، بحيث ترى هذا النسيج المتجاذب، في كل ناحية من المشاعر، وتشعر بقوة التنسيق تسري في شرايين الطرق ومفاصل المشاعر، والجاهزية عالية المستوى التي تنتظر كل حاج وحده حين يحتاج إليها فجأة.

لقد انتقلت أجهزة الدولة من تلبية احتياجات الحاج وخدمته فيما يرغب إلى إسعاده، وقدم أبناء هذا الوطن (قلب الأمة النابض) أنموذجا للعسكري الأسد وهو يقدم ابتسامته الصافية مع رشة ماء بارد، وعلبة عصير، ومسحة على جبين مرهق، وضمة لطفل تائه، وقبلة على جبين مسن، ودفع لعربة عجوز، ومع ذلك كله تنسى أنه يقف في موقعه هذا ساعات طوالا، ولا يمكن أن تسمح لك بشاشته وبشره أن تفطن إلى مواضع تعبه وإرهاقه.

كل الخدمات تقدمت، وكل المشكلات تلاشت أو تقاصرت بلا استثناء، الصحة والنظافة والقطار والتفويج وإدارة الحشود والقضاء على الافتراش والتدافع و…، بعضها كان حلما ينتظر القوة القادرة على تحقيقه، فقضى الله – تعالى – أن نرى الأحلام حقائق، وأن يبقى الحجاج مستعيدي الذكريات العطرة الجميلة لتفاصيل جلساتهم، مترنمين بالدقائق التي قطعوا فيها الطرق التي كانوا يقطعونها في ساعات، ويتبادلون صور المواقع التي كانت تغص بالزحام، كيف أصبحت سمحة رحبة منسابة، واستعادوا قول الشاعر العربي الأول: ولما قضينا من منى كل حاجة، ومسح بالأركان من هو ماسح

أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا، وسالت بأعناق المطي الأباطح.

إن كان لي أن أبحث عن فرصة للتحسين في خضم هذه النجاحات، فهي متمثلة في شيء واحد، وهو أولئك المتسولون والمتسولات الذين توزعواعلى جسور الجمرات، يتلقون الهبات، ويعطلون الحجاج، وكم أتمنى أن تزول هذه الحالات الشاذة عن نسق الحج الرائع.

 

عشنا نجاحا عظيما بكل المقاييس، ويجب أن نحافظ عليه، ونسعى لمزيد من التضحيات والتخطيط للوصول إلى ما هو أفضل منه وأكثر إسعادا لوفود الله تعالى في بيته.



اترك تعليقاً