النخلة والمؤمن 2

الخطبة الأولى:

الحمد لله المنعم المتفضل، له الشكر حتى يرضى، وبعد الرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد: فأوصيكم ونفسي أولاً بتقوى الله -تعالى- وطاعته، امتثالاً لأمره، حيث قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ)[التوبة: 119].

النخلة شبيهة المؤمن؛ بنص حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “مثل المؤمن كمثل شجرة خضراء، لا يسقط ورقها ولا يتحاتُّ”، فقال القوم: هي شجرة كذا، هي شجرة كذا، فأردتُ أن أقول هي النخلة -وأنا غلام شاب- فاستحييت، فقال: هي النخلة”(رواه البخاري).

وقد أوردت في الخطبة المنصرمة خمس صفات تشترك فيها النخلة مع المؤمن، وهذه الصفة السادسة، وهي دنوُّ القطاف، فالنخلة قطوفها دانية في كل أحوالها، في حال قصرها وطول جذعها لسهولة الصعود إليها، كما أن الصعود إليها لا ينال من أوراقها، ولا يكسر أغصانها، ولا ينال جُمَّارها ولا برعمها الطرفي.

والمؤمن سهل القطوف، خيره قريب سهل ليّن يسير ممن أراده ليس بفظ ولا غليظ، يؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة، ويطعم الطعام على حبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرا، يحب الناس ويغدق عليهم، ولا يتخلى عن أخلاقه وثوابته مهما زادت الألفة والمحبة والمخالطة بينه وبين الناس.

وإليك هذه الصورة التي رواها البخاري -رحمه الله تعالى-، عن أنس -رضي الله عنه- أنه قَالَ: “إِنْ كَانَتِ الأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ المَدِينَةِ، لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ”، والْمرَاد من الْأَخْذ بِيَدِهِ -كما قال العلماء- “لَازمه، وَهُوَ الرِّفْق والانقياد، يَعْنِي: كَانَ خلق رَسُول الله -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- على هَذِه الْمرتبَة، هُوَ أَنه لَو كَانَ لأمة حَاجَة إِلَى بعض مَوَاضِع الْمَدِينَة، وتلتمس مِنْهُ مساعدتها فِي تِلْكَ الْحَاجة، واحتاجت بِأَن يمشي مَعهَا لقضائها: لما تخلف عَن ذَلِك حَتَّى يقْضِي حَاجَتهَا” انتهى .

وهكذا النخلة يفيء الناس إلى ظلها، ويأكلون ثمرتها، ويحصلونه منها بيسر وسهوله إن كان دانيًا تناولوه، وإن كان عاليًا ففي جذعها درج مهيأ يرتقيه من أراده، بخلاف كثير من الشجر الطوال، فالوصول إلى ثمرتها صعب عسير.

الصفة السابعة في النخلة: أنها يؤكل ثمرها كل حين، فالنخلة يؤكل ثمرها بكميات كافية كل حين على هيئة: الطلع (البشرة)، والبُسر، والرطب، والمنصف، والتمر، وعندما تجف ثمارها أو ترصد تؤكل طوال العام، فهي زاد للمسافر، وعصمة للمقيم، سهلة التخزين بطيئة الفساد والتغير.

والمؤمن يخرج زكاة ماله كل حول إن بلغ ماله النصاب، ويخرج زكاة فطره في رمضان، ويتصدق طوال العام، ويسارع في الخيرات، ويطعم الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيرا، وهو يطعم عند العقيقة لأبنائه، وعند الزواج، وعند الأضحية، وعند الحج، وعند خروج الثمار، ويتداوى بالصدقة، وغير ذلك من أوجه إطعام الطعام، التي لا حصر لها.

ومن صفات النخلة: أن ثمرها لا تعيش فيه الفيروسات، بل لو وضعت عليه حيةً لماتت كما ذكر لي ذلك أحد المختصين في التمور في جامعة الملك فيصل، والمؤمن مثلها، يظل طيبا في كل أحواله، يقول أبو هريرة -رضي الله عنه-: “لقِيَني رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- وأنا جُنُبٌ، فأخَذ بيدي، فمَشَيتُ معَه حتى قعَد، فانسَلَلتُ، فأتيتُ الرَّحلَ، فاغتسَلتُ ثم جئتُ وهو قاعدٌ، فقال: “أين كنتَ يا أبا هِرٍّ؟” فقلتُ له، فقال: “سُبحانَ اللهِ يا أبا هِرٍّ إنَّ المُؤمنَ لا يَنجُسُ”(رواه البخاري).

الصفة الثامنة في النخلة: ضبط الحركة، فالنخلة لا تعتدي على جيرانها بسيقانها أو فروعها، وهي محكومة في انتشارها في البيئة لذلك لا تؤذي المحيطين بها، والمؤمن محكوم بالضوابط الشرعية مع المحيطين به، متوقع السلوك، لا يدخل بيت غيره إلا بإذنه، ولا يطلع على عورات غيره، ولا يترك لبصره العِنان، تجده حيث أمره الله، وتفتقده حيث نهاه، ويتقي الله حيثما كان.

الصفة التاسعة في النخلة: طول طفولتها، وعمرها المئوي، فإن طفولتها تشبه طفولة الإنسان، تمر بمرحلة الغرس، والسقي المقصود الذي يشبه الرضاع، حتى تتقوى وتشب فتتغذى لوحدها مما يغدق عليها من المياه بشكل عام، ثم تكبر فتشيخ، ثم تموت، وعمرها مقاربٌ لعمر الإنسان، فهي تعيش مثله لا تزيد عن مئة عام إلا نادرا.

الصفة العاشرة في النخلة: أنها تشذب في العام مرة، فالنخلة مورقة خضراء على الدوام، ولا تشذب في العام إلا مرةً واحدة، حيث تُقص منها السعفات الصفراء التالفة، وبهذا تكون أجمل وتشعر بأنها تنمو، وتصبح أكثر ملاءة للتعامل معها.

وكذلك المؤمن، فهو مورق دائما بالأذكار والصلوات والعبادات، ومع ذلك لا ينسى نفسه من التشذيب، بل يزكي نفسه كل آن؛ ليكون أفضل وإلى ربه أقرب، وإلى الناس أحب، ولذلك ينتفع الناس به أكثر.

ومن مواسم التشذيب والتزكية التي تمر بالمؤمن كل يوم: الصلوات الفرائض، وفي كل عام: صوم رمضان، والحج في العمر مرة.

ومن شعر العرب ما قالته أم ثواب الهزانية، وهي تلتقط صورة أبار النخل وهو يصب حنانه على النخلة، واعظة ولدها الذي ظهر منه العقوق لها وقد نيفت على الستين من العمر:

رَبَّيْتُهُ وَهْوَ مِثلُ الفَرْخِ أعْظَمُهُ *** أُمُّ الطَّعامِ ترَى في جِلْدِهِ زَغَبا

حتى إذَا آض كَالفُحَّالِ شَذَّبَهُ *** أبَّاَرُهُ وَنَفَى عَنْ مَتْنِهِ الكَرَبا

أنْشَا يُمزِّقُ أثْوَابي يُؤَدِّبُنِي *** أبَعْدَ شَيْبِيَ عِنْدِي يَبْتَغى الأَدَبَا

إِنّي لأُبْصِرُ فِي تَرْجِيلِ لِمَّتِهِ *** وَخَطِّ لِحْيَتِهِ فِي خَدِّهِ عَجَبَا

فاللهم ارحم والدينا كما ربونا صغارا.

(وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا)[الإسراء: 23].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والذكر الحكيم.

أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على نعمه، والشكر له على فضله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-: الصفة الحادية عشرة في النخلة إشهار التلقيح، فالنخلة رغم أنها من ذوات الفلقة الواحدة ذاتية التلقيح الهوائي مثل القمح والشعير والذرة والموز والأرز، ولكنها تختلف عنها جميعا بأنها تحتاج إلى تأبير، وهي تعلن عن حاجتها للتلقيح عندما تُخرج نوراتها، وعندما يتم تلقيحها تنشق بطريقة يعلم الجميع منها أنها لقحت، وإذا تركت دون تلقيح بالإنسان شاصت، وكذلك المؤمن مشهود على زواجه ودخوله بزوجه من الجميع، ومعلن عن ذلك بالدفوف، ويحتاج زواجه إلى شاهدين، وولي وإيجاب وقبول، قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: “أَشيدُوا النِّكاحَ، أَشِيدُوا النِّكاحَ، هذا النِّكاحَ، لا السِّفاحُ” أي أعلنوا (حسن لشواهده الألباني).

الصفة الثانية عشرة في النخلة: الأصالة، والصفات الوراثية، فأفضل أنواع النخل معلوم الأصل يتم تكاثره بالفسائل أو بزراعة الأنسجة، والمؤمن معلوم الأصول الوراثية، وهو أصيل في دينه، لا يبتدع، ولا يخلط شرع الله بشرع البشر، وإذا صنع ذلك فسد عمله ورُدَّ كما يتلف النخل إذا بُدلت صفاته الوراثية، ولا تؤكل ثماره ولا تباع بسهوله، بل يعلف به الدواب لرداءته.

الصفة الثالثة عشرة النخلة: أن ثمرها حلو الطعم عديم الرائحة، فثمار النخلة حلوة الطعم عديمة الرائحة، وكذلك المؤمن الذي يعمل بالقرآن ولا يقرؤه، فطعمه حلو ولا رائحة له، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “مثلُ المؤمنِ الذي يقرأ القرآنَ مثلُ الأترُجَّةِ ريحُها طيِّبٌ، وطعمُها طيِّبٌ، ومثلُ المؤمنِ الذي لا يقرأُ القرآنَ مثلُ التَّمرةِ لا ريحَ لها وطعمُها حلوٌ، ومثلُ المنافقِ الذي يقرأ القرآنَ مثلُ الرَّيحانةِ ريحُها طيِّبٌ وطعمُها مُرٌّ، ومثلُ المنافقِ الذي لا يقرأ القرآنَ كمثلِ الحنْظلَة ليس لها ريحٌ وطعمُها مُرٌّ”، وفي روايةٍ: (بدل المنافق) “الفاجرِ”(رواه مسلم).

بل إن ثمرها ليشبه عمل المؤمن الطيب الذي لا يشهره، ويتركه خبيئة له عند ربه، فلا يشعر به أحد، قال الزبير -رضي الله عنه-: “أيُّكم استطاع أن يكون له خبيئة من عمل صالح فليفعل”، والخبيئات هي صمام الأمان في الاستقامة، كما أن “ذنوب الخلوات أصل الانتكاسات”، وإنما أنقذ أهل الغار الذي سدته عليهم الصخرة خبيئاتهم التي لم يكن يعلم برائحتها أحد، وعدد من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله هم من أهل الخبيئات، وهؤلاء لا تشم روائح أعمالهم الطيبة حتى يموتوا: أين الذين إذا تهادى ذكرهم فاح الأريج كأنهم قد عادوا؟

الصفة الرابعة عشرة في النخلة: تفاوت الدرجات والجودة، فالنخلة أنواع وأجناس وأصناف، منها شديد الحلاوة ممتاز الطعم (كالعجوة والخلاص والسكري والرزيز)، ومنها أقل من ذلك؛ كما قال الله -تعالى-: (وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُون)[الرعد: 4]، فهو متفاوت في طعمه ومنظره ونوعه، وبعضه أفضل من بعض.

وفي كل النخل خير، وكذلك إيمان المؤمن يزيد وينقص، ولهذا سئل الأوزاعي -رحمه الله- أيزيد الإيمان، قال: نعم يزيد حتى يكون أمثال الجبال قيل أينقص قال نعم ينقص حتى لا يبقى منه شيء.

والمؤمنون درجات منهم الصديقون ومنهم السابقون ومنهم المذنبون: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ)[فاطر: 32]، قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: “المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى اللَّهِ منَ المؤمنِ الضَّعيفِ، وفي كلٍّ خيرٌ”.

اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر إخواننا المجاهدين في الحدِّ الجنوبي وفي كل مكان، وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلما لأوليائك حربا على أعدائك.

اللهم فك أسرى المسلمين، واقض الدين عن المدينين، واهد ضالهم، وهيء لأمة الإسلام أمرا رشدا يعز فيه أهل طاعتك، ويهدى فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر.

اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطاهرين، وصحبه أجمعين، وعنا معهم برحمتك وفضلك ومنك يا أكرم الأكرمين.



اترك تعليقاً