التعليم وراء الأسوار

في تجربة شخصية قديمة، أحيل إليَّ مقرر حفظ القرآن الكريم في الكلية، فحولت موقع التعليم من القاعة الدراسية إلى مسجد الكلية، ومن الطريقة المدرسية في تعليم القرآن إلى حلق يديرها الطلبة أنفسهم، بمتابعة أسبوعية محفزة، انتهت بإتمام جميع الدفعة المقرر كاملا، فجاءت النتائج مبهرة مقارنة مع النتائج المماثلة لها من قبل؛ من حيث إتمام الحفظ، وجودته. وحين أحيل إليَّ مقرر البحث العلمي، جعلت المحاضرة في مكتبة الكلية، وطلبت من الطلبة أن يجعلوا أبحاثهم في أدباء بلداتهم التي يؤولون إليها، وأن يتواصلوا معهم مباشرة، ويزوروهم، فنشأت علاقات مثمرة فيما بينهم بعضها امتد فيما بعد. ومن أجمل ذكرياتي في كليتي الأحسائية التابعة لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية: اللجنة الأدبية التي جمعتني مع بعض الطلبة النجباء، زرت بهم عددا من الأندية الأبية في المملكة، والشخصيات البارزة في النقد والشعر وتاريخ الأدب، وكان لي معهم ومع أمثالهم من خارج الكلية، لقاءات أدبية شيقة نستضيف فيها أدباء كبارا، نسمع تجاربهم ونستلهمها، ويستمعون نتاج هؤلاء الشباب ويقومونها، وجُلُّ هؤلاء اليوم شعراء ونقاد وأدباء، وأكثرهم حصل على درجة الدكتوراه، وبعضهم حصل على جوائز محلية وإقليمية وعربية. بالطبع لم تكن اللجنة الأدبية المؤثر الوحيد فيهم، بل كانت لهم جهود فردية متميزة، وطموح عريض، وشغف بالقراءة والاطلاع والتجريب. ما أتمناه أن تكسر المدارس والجامعات حدة التواجد اليومي بين أسوارها المنيعة؛ لتطلق للمعلمين والمعلمات ميادين جديدة يبدعون في اختيارها، أو في ابتكارها.

في زيارات متعددة لدول أوربية وآسيوية متقدمة، وجدت المتاحف والحدائق والمكتبات العامة تلعب أدوار البدائل المبدعة في تغيير البيئة المدرسية؛ حيث الإثراء المعرفي، والتشويق الاستكشافي، والتدريب المهاري. والتقارير المدرسية لا تكتظ بالدرجات، والتقديرات، بل هي شهادات من المتخصصين بأن الطالب قد أتقن فن التفكير، وتطور في البحث، وأصبح ماهرا في استكشاف الحياة من حوله. الرحلات الطلابية – هناك – تجوب البلاد بكل جغرافيتها وكياناتها؛ تزور المتاحف التاريخية؛ لتستكنه حضارة البلد وعراقته، وتعيش يوما مع الأرض الزراعية لتتعرف على النباتات وكيف يتم استنباتها وسقيها، بل ويجمع الطلبة أنواع الحشرات فيها! وتزور الشاطئ لتشكل من رماله المبللة تكوينات إبداعية، وتعيد صفَّ القواقع على المرسم لتبدأ بها رحلة إبداع. ولكن حين تفتقد في مدينتِك العريقة المتحفَ الحضاري، ولا تجد في أم النخيل حديقةً لأنواع التمور بل ومكونات النخلة وكيف كانت تستثمر، والصناعات التحويلية الجديدة، ولا تجد فيها معرضا للتطور المدني، أو الصناعي الإنساني، فقد تعذر المعلمين والمعلمات!! لماذا لا نخصص معرضا لتطور المواصلات، وآخر لوسائل الاتصال، ونقيم معرضا دائما لمؤلفات كتاب البلاد خاصة منذ أول مطبوعة صدرت فيها، ونؤسس لمزرعة سياحية للفواكه والحمضيات، وثانية للزهور، وثالثة لأحياء البيئة، وهكذا..

ولماذا لا يزور طلاب الابتدائية فضلا عمن هو أكبر منهم، النادي الأدبي ليلتقوا بالمفكرين والأدباء والمؤلفين، ليبذروا فيهم بذور العلم والإبداع، ويستمعوا إلى قصص حياتهم من أفواههم؛ لنقدم لهم القدوة التي تستحق الاحتذاء، بدلا من الركض الأعمى وراء مشاهير الخواء والمهاترات. في بلادنا متاحف مهجورة، ومكتبات مجهولة حتى عند من هم في محيطها التعليمي، وعلماء أفذاذ أبعد الناس عنهم أقرب الناس إليهم. لقد ذُهلتُ حين رأيت في مدينة إنجليزية مُربعا ضخما، جُلب له رمل أبيض نظيف من خارج المدينة، فقط ليلعب فيه الأطفال بإشراف من طاقم تعليمي مدرب، بينما أهلهم يزورون أحد معالم المدينة!! يا رجال التعليم ويا نساءه .. أخرجوا بعض التعليم من جُدران القاعات والفصول إلى باحات الفضاء الذي لا حدود له؛ لتحظوا بجيل جديد يستحق أن يعيش برؤية جديدة.



اترك تعليقاً