الطلاق والأبعاد الخفية

ولولا أنَّ الحاجة داعيةٌ إلى الطلاق لكان الدليل يقتضي تحريمه كما دلَّت عليه الآثار والأصول، ولكنَّ الله تعالى أباحَه رحمةً منه بعبادِه؛ لحاجتهم إليه أحيانًا» [مجموع الفتاوى 32/ 89]. بهذه الجملة المشحونة ببغض الطلاق، وكراهيته النفسية والبشرية، يطلق شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ فتواه هذه؛ ليحذر من التهاون في إطلاق كلمة (طالق) بلا حاجة داعية إليها، لما يترتب عليها من العواقب الوخيمة التي يتركها هذا الفيروس الخطير إذا تفشى في جسد الأمة.
أكثر من أربعة وثلاثين ألف حالة طلاق وخلع وفسخ سنويا تمزق نواة المجتمع (الأسرة) في بلادنا، وتبذر بذور الجريمة والتخلف والبطالة والفقر والاكتئاب والعنوسة، وتعطل المصالح، وتشغل الدوائر وتهدر الملايين خلال ملاحقة قضاياها وبعدها!!
كل ذلك يدفع الجهات المعنية بهذه القضية أن تضعها تحت المجهر؛ لتدرس أسبابها الظاهرة، ودوافعها العميقة، وآثارها المدمرة، وتضع لكل ذلك حلولا ناجعة؛ للحد من هذه الظاهرة الممتدة في شرايين المجتمع، وإن كان منه ـ أحيانا ـ إغناء للطرفين بلا شك، «وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا» [سورة النساء 4/130].
لا نستطيع أن نقول إن نسب الطلاق في المملكة معقولة، لأنها توافق التعداد العالمي، من 18 – 22%، فذلك أمرٌ مُوهم، فإن النسبة في بعض المناطق أقل من ذلك وفي بعضها أعلى، ولا توجد دراسة واحدة تحاول الكشف عن سبب هذا التباين الذي يصل إلى 7% في الباحة و31% في الرياض.
كما أن الدراسات الجادة تشكو من أن “جميع حالات الطلاق يتم إدراجها في إحصاءات المحاكم ووزارة العدل (كطلاق) دون تصنيف لنمط الطلاق، ومتى وكيف وقع” كما ذكر أحد الباحثين، ورب سبب قاد إلى حل، بل قد يكشف تكرار وقوع الطلاق في وقت معين عن سبب خفي، كأن يكون ظهرا عند عودة الزوجين من العمل، أو أحدهما، فيدلنا ذلك على أهمية التدرب على فن التعامل مع ضغوط العمل، وطرق التخلص من آثارها السلبية ساعة دخول المنزل، والقدرة على ضبط المشاعر وإدارتها باقتدار؛ بالتدرب على اكتساب مكونات الذكاء العاطفي.
سألت الدكتور إبراهيم الصيخان عن نسبة الداخلين في إصلاحية الأحداث من البيوت المفككة، فذكر أنها تصل إلى 60%؛ وذلك من خلال بحث قام به، وهذا الدكتور صالح الصنيع الباحث في الشأن الاجتماعي، يؤكد ذلك من خلال إشرافه على الطلاب المتدربين في (دار الملاحظة) بمدينة الرياض على مدى يزيد على عشر سنين، حيث وجد أن كثيرًا من الأحداث يأتون من أسر متفككة، من خلال دراسات الحالة التي تجرى لهم في الدار. وهي النسبة ذاتها التي وجدها كل من (شلدون جلوك) و(اليانور جلوك) سنة 1939م – 1949م على (500) نزيل في إصلاحية (ماستثوسس)؛ حيث ظهر أن حوالي 60% من النزلاء جاءوا من أسر متصدعة!!
إذن، الطلاق ليس فراقا بين اثنين، بل هو أكبر من ذلك بكثير، إنه يعرض الحياة الاجتماعية والاقتصادية والأمنية للخطر الشديد، ولذلك فإن دراسة أسباب الطلاق تكشف لنا عددا من الظواهر السلبية التي يجب أن تلقى عناية فائقة من المختصين والمعنيين بها ليحاصروا (الطلاق) من الثغرة التي يقفون عليها.
وفي دراسة حديثة جدا لمركز بيت الخبرة للبحوث والدراسات الاجتماعية الأهلي، جاءت الأسباب بالترتيب التالي: في المرتبة الأولى: الضرب بنسبة 10.5%، وفي المرتبة الثانية: تدخل الأهل، والخيانة؛ بنسبة 8.3% وذلك على التوازي، وفي المرتبة الرابعة: الإدمان، وعدم تحمل المسؤولية؛ بنسبة 7.3% وذلك على التوازي، وفي المرتبة السادسة: عدم التكافؤ، وضعف شخصية الزوج، وعدم التفاهم؛ بنسبة 5.2% وذلك على التوازي، وفي المرتبة التاسعة: التزوج ثانية دون القدرة على إدارة الموقف؛ بنسبة 4.2 %، وفي المرتبة العاشرة: المرض، والاستقلال المادي، واستغلال الدين، والكذب المستمر، وسوء الأخلاق؛ بنسبة 3.2% وذلك على التوازي، وفي المرتبة الخامسة عشرة: البخل، والعصبية، والشك، وعدم الرغبة في إنجاب أطفال، وضعف الدين، وسوء المعاملة، بنسبة: 2.1% وذلك على التوازي، وفي المرتبة الحادية والعشرين: العلاقات العاطفية قبل الزواج، والديون، وفرق العمر، والسحر، والزوج بدون عمل، وعدم المصداقية، وعدم معرفة حقوق الزوجة، وعدم الإنجاب، وعدم وجود المحبة بنسبة: 1.1% وذلك على التوازي.
قضية تستحق اهتماما عمليا أكثر من مجرد أرقام، ولعل التخصيص المالي السنوي الذي قرره مجلس الوزراء الموقر لتأهيل المقبلين على الزواج خطوة في الطريق الصحيحة؛ حيث ثبت بأن 97% ممن يحضرون هذا البرنامج تستقر أسرهم بإذن الله تعالى.



اترك تعليقاً