صوت الإرادة يدوي

أخي الصائم:
الصيام مدرسةٌ رُوحيَّةٌ؛ لتهذيب النفس، وتوجيه السلوك، وتدريب الجسد والرُّوح على العزائم، لا يكون ذلك بقوة الأمر والنهي؛ ولكن بالحبِّ والطاعة المختارة؛ بل بالشَّوْق الذي لا حدود له.
فقبل أن يَفِدَ الشهر الكريم بأشهرٍ – تتطلَّع النُّفوس المؤمنة بلَهَفٍ شديدٍ إلى هلال رمضان، فإذا هلَّ بالبركة والأمان – تبادل المسلمون التهاني بينهم، وكأن العيد قد حلَّ قبل أوانه. فيا طيب روائح تلك التباريك الفَرِحة وهي تعطِّر الأفواه الصَّائمة، والمجالس العامرة، مصحوبةً بابتسامة الرِّضا والقَبول والتَّسليم.
عندها ترسخ في نفس المسلم عزيمةٌ ثابتةٌ، لا يتطرَّق إليها أدنى تردُّدٍ: أن تستقيم على هدي الله تعالى، وهدي رسوله – صلى الله عليه وسلم – في كل شؤون هذه العبادة، مهما تعارضت مع الهوى الشخصيِّ، والرغبة الخاصَّة، وهذا هو ميدان ترويض مُهْرَة النَّفس الشَّموس على خلق الإرادة، وتحقيق المراد دون ضعفٍ أو تخاذلٍ، وهو درسٌ لا تقتصر حاجتنا إليه في رمضان فقط؛ بل في جميع لحظات حياتنا حتى نلقي ربنا تعالى.
فما أحوجنا إلى الإرادة الرَّاسخة حين تعرض علينا رشوةٌ مغريةٌ لإبطال حقٍّ أو إحقاق باطلٍ، وما أحوجنا إلى الإرادة القوية حين نُدعى إلى مجلس فُحْشٍ، أو مصاحبة رِفقة سوءٍ، وما أحوجنا إلى وقفةٍ شامخةٍ حين تستذلَّنا إيماءةٌ من شهوةٍ دنيئة!!
وإذا كنَّا أعزَّةً حقًّا في داخل نفوسنا؛ فلماذا نخجل من إعلان إرادتنا العليا تلك، وتأبِّينا على كلِّ المراودات السلوكية الهابطة، بصوتٍ مسموع؟!
لماذا لا نصرخ بكل شجاعة في وجه مفاتيح الشر:
لا.. لن نسمح لكم أن تقتربوا من سياج مروءاتنا ..
لا.. لن نسمح لأنفسنا أن تكون فرائس سهلة لأنيابكم الشَّرسه ..
لا.. لن نسمح لأعصابنا وبطوننا أن تَجُرَّنا إلى الهاوية، بعد أن أعلى الله قدرنا..
إننا حين نرفض كل دعوةٍ إلى انحراف؛ فإننا نرتفع بمستوى إنسانيَّتنا إلى السُّمُوِّ الذي أراده الله تعالى لها، وهو ما نستشفَّه من قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد: 12].
فتساوي القَدْر بين الإنسان والبهيمة في هذه الآية ليس لأنهما يشتركان في الحاجة إلى الطعام، ولكن لفقدان ضابط الإرادة عند الإنسان، فالكافر حين عُرِضَ عليه الإيمان اختار غيره، وحين عُرِضَ عليه ضبط سلوكه بما يصلح شأنه، وليس غير خالقه يَقْدِر أن يختار له، {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } [الملك: 14]، ولكنه أبى إلا أن يكون كالبهيمة، لا حدود لحريَّة إرادته.
فلله الحمد كله أن جعلنا مسلمين، وله الحمد حين مَنَّ علينا أن نثني رُكَبَنا بين يَدَي رمضان، نتعلَّم منه شيئًا مما يعيننا على كسب إرادة تحرُّرنا من قيود شهواتنا، مختارين حامدين شاكرين.


اترك تعليقاً