قررت تغيير حياتي

كل يوم أعيش نزفهم، وأحيانا أنزف معهم، أدخلتني استشارات الناس في مليون نفس ونفس، لم أعد أحتاج إلى دورة في (أنماط الشخصيات) كما يقولون، ولا (كيف تكتشف الآخرين)؛ لأن الآخرين يكشفون ذواتهم أمام مجهر أحاسيسي قبل أذني وعيني، قد يعظني أحدهم موعظة لم أسمعها على منبر، ولا قرأتها في كتاب بشر، فأجد نفسي له مدينا، وهو يظن أنه مدين لي، قد يحل لي أحدهم معضلة أو يخفف عني هما، أو يجعلني أرضى .. نعم أرضى بما وقع لي، مهما كان!

كثير من الاستشارات تمر مر السحاب، وبعضها يبقى له أنين، وبعضها له طنين، وقليل منها يجبرني على الاحتفاظ به.

يبدو أن هذه الاستشارة التي بين يدي الآن هي من هذا النوع، فأحمد يقول: “بعد ذلك اليوم قررت تغيير أسلوب حياتي.. بداية بمسامحة ذاتي.. ثم عدم مطالبة نفسي بأي إنجاز لمدة خمس سنوات.. وتكون هذه السنوات الخمس هي سنوات تعلم وتدريب.. وقراءة مثمرة.. ومشاركات.. وتفاعل.. وأنا متيقن بإذن الله بأني سأرى النجاح خلال سنة..” إن هذا التصور الذي قد يبدو منطقيا وممتازا، وفيه كثير من القوة في إدارة الذات، نصفه الأول رائع وليس صوابا فقط.. نعم لابد أن تسامح ذاتك، وتتعب على بنائها، وتشرك الآخرين في هذا المشروع الإنساني الكبير، ونصفه الآخر غير صحيح وسيء للغاية .. فإن التوقف عن الإنتاج يعني التوقف عن النمو في الجانب الذي تحس أنك الآن في حاجة إليه. والإنتاج له دور كبير في تطوير الفرد، والقفز به.. إنك لن تنتج إلا أن تتزود بالخامات التي تصنعها شيئا جديدا.. احتطب واصنع بابا جديدا إلى مجد جديد.

ولكن أحمد يقول: “حتى أنطلق أريد بعض القناعات القوية والشديدة التي أستطيع حملها والخروج بها لمواجهة الإشكاليات التالية: الحرص الشديد على رضا الناس” لا أدري هل نسي أحمد قصة جحا وولده وحماره .. التي انتهى فيها إلى أن: (رضا الناس غاية لا تدرك)، نعم احرص على مشاعر الآخرين .. لكن لا تجعلها تدمر نفسيتك .. كن قويا بالقدر الذي يحميك.

ويزيد أحمد: “الحساسية العالية حدَّ الارتباك من النقد والسخرية والاستهزاء”، كلنا لا نحب النقد الجارح، ولكن علينا أن نوطن أنفسنا على تقبل النقد البناء، حتى نحقق نموا متصاعدا باستمرار، وبالقدر الذي نكره فيه سخرية الآخرين بنا، يجب علينا ألا نسخر نحن منهم، كما أننا لن نقبل أن يسخر منا أحد.. أيضا.

ويزيد أحمد:”الحساسية الفظيعة من الرفض”، ومن حقنا أن نحس بقسوة الرفض.. شعور مقبول جدا.. ولكن لا بد أن أقبل نفسي عندما يرفضني الآخرون.

ويزيد أحمد: “انتظار بلوغ الكمال ثم البدء بالعمل” وهذا خلل كبير.. لن يبلغ الكمال من البشر أحد أبدا.. يكفينا شرفا أن ننشد الكمال.. وإن كنا لن نصل إليه.

ثم يواجهني أحمد بسؤال شخصي: “أريد أن أعرف كيف يتعامل عقلك أنت يا دكتور مع مثل الإشكاليات أعلاه”، فأجبته: كما حررت لك أعلاه!! ولكن من حق الآخرين أن يتعاملوا معها بطرق أخرى مختلفة تماما عنها، فالصواب ليس حكرا على أحد، ولنجرب، ونتقبل نتائج التجربة، خير من أن نبقى نتساءل: هل في القربة ماء؟ حتى نموت عطشا.

نعم.. من يتعامل مع هموم الآخرين قد يضيف إلى همومه همومهم، ولكن قد يحدث العكس، فيغسل بهمومهم همه، والله تعالى يقول: {فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [سورة آل عمران 3/153]. وهكذا يصبح الغم الجديد ثوابا يذيب الغم الأول.



اترك تعليقاً