تربية مَرَة

قد نسمع ـ أحيانا ـ في مجتمعنا من يقول: “هذا ما عليه شرهه تربية مرة” في إشارة تنقص إلى من تربية أمه وأنه يصبح ناقص التربية!!

عبارة تعد جزءا من مدونة شعبية عفا عليها الدهر، وأصبحت نوعا من الآثار التي ينبغي أن توضع في زاوية من زوايا متحف شعبي قديم.

نعم.. ربما جاء على المرأة فترة من الجهل والأمية والاستهانة بقدرها، بل كانت فيها مسلوبة الحق حتى في الكلام، فكيف ننتظر من ضعيف الشخصية أن يربي شخصا قوي الشخصية؟!

أما المرأة تاريخا وحاضرا فهي صانعة المبدعين، وبانية المجتمع، هي نصف المجتمع ومربية النصف الآخر، “الرجال من صنع المرأة، فإذا أردتم رجالا عظاما علموا المرأة ما هي العظمة” هكذا قال روسو، وأنا مؤمن تماما بكلماته الرائعة هذه، وقد قيل ((إن ٱلأبطال يصنعون ولا يولدون)). ونابليون، وهو القائد التاريخي ــ يقول: إن الأم التي تهز سرير ابنها بيمينها؛ لتهز ٱلعالم بيسارها”، ومن ٱلقواعد ٱلمقررة أن عظماء ٱلرجال يرثون عناصر عظمتهم من أمهاتهم.

وقد تجدُّ ظروفٌ خاصة تجد فيها الأم نفسها قد أصبحت مسئولة عن دور التربية كاملة كوفاة الأب أو الانفصال أو سجن الأب أو سفره الدائم.. فهل يضيع الولد؟ وهل كل من وقعت لهم هذه الظروف ساءت تربيتهم، وفشلوا في حياتهم؟

إن معجم الأعلام في العالم يحفل بقامات عليا، لم يكونوا سوى (تربية امرأة)، والعرب حين يرون من نجيب من ٱلأذكياء ما يعجبهم يقولون: لله درك، فيمدحون ٱلدر وهو ٱلحليب ٱلذي رضعه، لا ٱلأب ٱلذي أنفق عليه، وقد تقوم الأم بالتربية بكاملها لا لغياب الأب حسيا، ولكن لغياب دوره تماما، وعدم قيامه بمسؤوليته، والواقع مثقل بشكوى كثير من ٱلأمهات من عدم ٱلتفات ٱلآباء إلى تربية أولادهم؛ بسبب انشغالهم بطلب الرزق، أو لغير ذلك من أسباب ربما لا تكون مقنعة للأمهات، وهنا فإن ٱلأم ٱلناضجة هي ٱلتي تتقمص دور ٱلأب إلى جانب دور ٱلأم، بدلا من تضييع أولادها، أو ٱلدخول في مشاكسات لا تنتهي مع ٱلأب ليعود إلى دوره.

وهنا قد تظنُّ بعض ٱلأمهات أن ٱلأم وحدها لا تستطيع أن تربي ولدا ناجحا، فأدعو هؤلاء إلى تتبع سير (من رباهم النساء)؛ فقد نشأ أحمد بن حنبل في حضن أمه بعد وفاة أبيه؛ فأصبح إماما من أئمة ٱلدنيا؛ يقول ـ رحمه الله ـ : “حفظتني أمي القرآن وكان عمري عشرا، وكانت توقظني قبل الفجر، فتدفئ لي الماء إذا كان الجو باردا، ثم نصلي أنا وهي ما شاء الله لنا أن نصلي، ثم ننطلق إلى المسجد وهي مختمرة لتصلي معي في المسجد، فلما بلغتُ السادسة عشر، قالت: يا بني سافر لطلب الحديث؛ فإن طلبه هجرة في سبيل الله”. وماذا أعدد من الأعلام الذي تربوا على أيدي أمهاتهم فقط!!

ولتصل الأم إلى ذلك لترى ابنها عالما كبيرا، أو طبيبا حاذقا، أو داعية محبوبا، أو أديبا مجيدا، أو مهندسا منجزا، أو مخترعا مبدعا، فعليها أولا أن تكف عن تصنيف ابنها في خانة الضعف أو الغباء أو مثل ذلك، حتى ولو تخيلت بأنه ليس من بادرة تدل على ذكائه وإبداعه، وإنما هو مشاغب متعب، ومزعج لعاب، لا يرتاح ولا يريح، فتظن أنه غبي قاصر، وربما كان عبقريا عظيما، ولكنها تقمعه وتكرهه على ٱلهدوء والاستكانة، وبين جنبيه طاقة خلاقة متوثبة، تحتاج إلى توجيه لا إلى كبت، إلى تبصير لا إلى تجهيل، إلى عناية وتشجيع، لا إلى تثبيط وتهوين من ٱلعزيمة ٱلناشئة ٱلطموح.

حين تعرف ٱلأم واجبها تصنع ٱلعجائب، وقد أظهر (أديسون) المخترع التاريخي الشهير بلادة وفشلا ذريعا في طفولته حتى طرد من المدرسة، فيما يعد مؤشرا قويا على درجة انحطاط ٱلذكاء في بداية أمره، فأخذت بيده أمه، حتى قال كلنته التاريخية: “إن أمي هي التي صنعتني، وأنا مدين لها بكل شيء”، فكيف حين يكون ٱلابن قد بدت إمارات ٱلذكاء والنجابة على ملامح وجهه، ونضحت على كل سلوكياته.



اترك تعليقاً