العولمة .. وإنسان العصر

كل الحضارات تستفيد من بعضها، حقيقة إنسانية قررها علماء الاجتماع، و(ما الليث إلا عدة خراف مهضومة)؛ كما يقول الغربيون، و(العولمة) وسيلة من وسائل التواصل، ولكنها لم تعد وسيلة اختيارية، بل أصبحت وسيلة إجبارية، تحتاج إلى مزيد من البحث الإجرائي للتعامل معها، وليس لإراقة الأوقات النفيسة في طرقاتها؛ بالإيغال في التعريف، والأنواع، والتقسيمات، والمصطلحات، العولمة أصبحت أوسع من أن تحد بحدود مصطنعة باهتة، بل أصبحت طوفان القرن النازح من كل مكان .. تجاه كل مكان، وسب الظلام لا يضيء شبرا واحدا، وليست العولمة كلها شر، بل فيها فرصة عظيمة جدا لتناقل الإنجاز البشري، والإسراع بحل مشكلات الشعوب على اختلاف أنماط ثقافاتها، ولكنها في الوقت نفسه خطيرة، وخطيرة للغاية.

ومنذ أن اخترقت كل الجدر، وتربعت بين المرء وعينه، وهي لا تواجه، ولا تعالج، ولا يُتعامل معها بحكمة في أغلب الأحوال، بل هناك من يخاف منها كلها ويحذر، ومن يقبلها كلها ويرحب، ومن لا يعلم بها، ولكنه واقع تحت تأثيرها بحيث يتوقع أن يغرق بين أمواجها، أو قد غرق!

وها فرنسا وكوريا واليابان وبريطانيا وغيرها خافوا على أصول موروثاتهم منها، وهم الذين سجلوا نجاحا باهرا في التقنيات المادية المعاصرة، ولكنهم يتوجسون من العولمة لكونها تحمل لهم أمركة في ثوب عولمة، وأن خصوصيتهم أصبحت مهددة بالاندثار، لذا تحفزوا وراحوا يشيدون خياشيم الثقافة؛ كي يستنشقوا أكسجينها النقي، فيأخذون ما تتلاقح به ثقافاتهم، وتزداد به فرص الإبداع والتقدم، ويدعون ما يهزُّ شخصيات بلادهم في نفوس الطلائع، ويبعثر ملامح وجوهها الخاصة، التي تميزها عن غيرها.

إذا كان الأمر كذلك، أليس من الواجب الشرعي والوطني أن يسعى أولو العلم والأمر في أمة الإسلام عموما، إلى ضبط عوامل التأثر والتأثير بينها وبين الأمم المختلفة؟!

إن ما أراه لدى غالب المثقفين لا يتعدى تعاملا فلسفيا مع القضية، ولا يزال بعيدا كل البعد عن عالم الواقع، ولذا فإن المتوقع هو مزيد من الارتكاس في مساوئ العلمانية، ومزيد من البعد عن منافعها، وأجمل ما تحمله للبشرية.

ولك أن تذهل معي لنتائج دراسة الدكتور سليمان الراجحي التي أكدت تأثر شبابنا السلبي ببعض الفضائيات، في الجانب العقدي أكثر من 35%، وفي الجانب الأخلاقي أكثر من 60%، وفي الجانب الدراسي أكثر من 40%، وفي الجانب العبادي أكثر من 44%، وفي الجانب الأمني أكثر من 76%، بل فكر 0.14% في ارتكاب جريمة فعلا بعد المشاهدة!!!

إن الموقف الأولى من العولمة يتمثل في (قصد) الاستفادة من معطياتها، وفتح الأطر العلمية بين الأمم، بدلا من التخوف منها، وهناك فرق بين تخوف يوقف التنمية، وتخوف يولد حذرا، وهو يندفع إلى مزيد من التنمية والتعامل مع الأمم الأخرى، في حين يصر على الخصوصية التي منحت لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ويعتز بها بشدة.

ولذلك فإني أرى ضرورة الانتقال من القول إلى العمل، بتدشين مشروع وطني بحجم الوطن، بل أتمنى أن يكون على مستوى الأمة، يستهدف حماية أجيالنا الصاعدة، ويكون جريئا في طرح أفكاره، قويا في اتخاذ توصياته، بدءا بنشر ثقافة الاعتزاز بالذات، والرقابة الشخصية، والضغط على إدارات الأقمار الصناعية لتحديد معايير جديدة، تحد من هذا السيل المدمر الذي لا ينقطع لحظة واحدة في الاتجاهين؛ الشهواني والإجرامي، وهما اللذان يقبل عليهما معظم أفراد الجيل الجديد جهلا بما يتقدم به ويرقى، وفي الجانب الآخر الإسهام الفاعل والمبهر في الإنتاج النقي الذي يقدم رؤيتنا الخاصة بنا، على أن يكون قادرا على المزاحمة والجاذبية، والتركيز على خصائص الشخصية الإسلامية، وامتيازها الفذ، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [سورة البقرة 2/143].



اترك تعليقاً