تفاجأ مستمعو البرنامج الإذاعي الرائع جدا: بك أصبحنا، حين جاء دوري، بعد أن أكد عشرات المشاركين على مضار السهر، وساقوا عشرات الأدلة النقلية والعقلية، وأبدعوا في انتقاء النصوص الشعرية والنثرية التي تكرس هذه الفكرة، بل أقنع بعضهم بعضا بضرورة الوعي بالمضار التي يتركها هذا الكابوس اليقظ على الجسد والنفس والروح والعقل والعلاقات والعمل والإنتاج…إلى آخره.. ثم توقفوا عند ذلك.
تفاجأوا حين توجهت مداخلتي نحو منحى آخر، يعترف بالواقع الذي أراد الحكماء أن يدثروه بالوعظ المحلق في فضاء لا نعايشه، ويرجع الأطيار المرفرفة خارج السرب إلى داخل القفص الكبير الذي يحيا فيه الناس راضين به، لأن معظم المتحدثين يسبون السهر ويسهرون، وليس هناك سوى قلة من الناس يعملون بنصائح الأطباء، ويهنأون في فرشهم مبكرين؛ لينهضوا مبكرين بكل نشاط وراحة، ولكن يبدو بأن كل تلك النصائح .. أستغفر الله .. معظمها لا يزيد قائمة أولئك المثاليين رقما يتناسب مع حجم تلك النصائح وحملات التوعية التي قامت وتقوم حول هذا الأمر الإنساني المهم.
ولذلك قررت أن أتحدث للساهرين، وآباء الساهرين، فهم الواقع الأوسع؛ لا لأنصحهم بترك السهر، ولا لأحثهم على البقاء متململين بين يديه، ولكن لأستثمر سهرهم، وأحذرهم من النتائج الخفية منه.
أما الطلاب فقد رأيت من يأتي إلى الفصل وهو في غاية التعب والإرهاق، ولا أدري كيف سيستوعب ما يقال له!!؟ وأما الموظفون فقد ذكر لي بعض من التقيته بأنه ربما نام ساعتين أو ثلاثا ثم حضر، وزاد بعضهم بأنه ربما واصل السهر حتى حضر إلى العمل، ويدعي بأنه لا يجد في ذلك تعبا أو غضاضة، وقد يؤيده أديسون؛ الذي كان يدعو إلى عدم الاستسلام للنوم حتى تنبه الإنسان طبيعته لذلك، ولذلك ينام أربع ساعات إلى ست فقط في اليوم والليلة، ويعمل بضعة عشر ساعة، أو كما يحلو له أن يقول: (يلهو)، أي يستمتع بعمله، بينما مخترع آخر بحجم أنشتاين ينام عشر ساعات يوميا، حتى اشترك نومه معه في بناء نظريته النسبية.
لكن كثيرا من أطفالنا يسهرون على ما يضر ولا ينفع، ويجلسون ولا يتحركون، ويأكلون ولا يشعرون، حتى أصبح النوم يتسبب في مضاعفة فرص السمنة لديهم بمقدار 9%، وسجلت العدادات السنوية أرقاما خيالية لسمنة الأطفال، فأصبح السهر يشكل ضررين حسيا ومعنويا، والمسؤولية تقع على رؤوس الآباء والأمهات، الذي أهملوا هذه القضية تماما؛ رغبة في انشغال أطفالهم عنهم، مع العلم بأن السهر من أكثر المحفزات على تناول الوجبات السريعة، التي وصلت نسبة تناولها في مجتمعنا السعودي إلى 59% من الأسر، وتزداد ـ بالطبع ـ بين الشباب.
وأما الشباب والفتيات، فالمأساة تتلو المأساة، التجمعات التي تكتظ بها الشوارع، والمزارع، تتناقل فيها العدوى بالأمراض الخلقية التعيسة، والألفاظ النابية، وتكون العصابات، وربما الانحرافات الفكرية، حيث أكد ذلك دراسة حديثة، بأن الشباب يتناقلون العادات السيئة، ويكتسبونها بطريقة خطرة جدا خلال السهر مع بعضهم.
وأكثر ما يستهوي الشباب في سهرهم ارتياد مقاهي النت، حيث يشكلون 80% من مرتاديها، ويمتهن 70% منهم التسلية المحرمة، فيما 55% منهم لا يعلم بهم أهليهم، مما يشير إلى التفكك الأسري الفضيع.
بل إن دراسة أسترالية عن مدمني النت تؤكد بأنهم عرضة خمسة أضعاف للانخراط في الجرائم، وسلوكات رديئة ضد أنفسهم.
وبالسهر تتضاعف ساعات متابعة الفضائيات، فمع تكرر الكدر في الفضاء العربي كل ليلة بانتهاك الحرمات، وتمزيق الحياء، فإن الطب يحذر من تزيد مشاهدتهم عن سبع ساعات بأن هناك فرصة تزيد عن 50% للإصابة بفقدان الذاكرة، وفي أوقات الدراسة ما يزيد عن 58% فرصة انخفاض معدلات الطلاب في نتائج الاختبارات!!
السهر أصبح حقيقة مرة، والأسرة مسؤولة عن كل دقيقة من دقائق الأولاد خلال الليل والنهار، وحين نستثمر ساعاته في زيادة الترابط الأسري، ونضع البرامج النافعة لأولادنا، سنغنم، وإلا فالخسارة فادحة!!
لقطة علمية: أبحاث كثيرة أن الإكثار من النوم أو الإقلال منه ضار بالإنسان، وأن النوم الصحي من 6-8 ساعات هي المدة المثالية.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.