من يضرم النار؟

حزنت كثيرا حين تحول الخطاب الثقافي والعلمي على قنواتنا وصحفنا ومواقعنا إلى هذه الحالة الكئيبة في مرحلة من أهم مراحل التنمية في بلادنا، فعلى الرغم من الجهود الكبيرة التي بذلتها وتبذلها المؤسسات الرسمية والأهلية في التقريب بين وجهات النظر بين المختلفين، ومحاولة إيجاد جو من الألفة، والتفاهم والحوار الهادئ، إلا أن ما يحدث لا يمثل الثمرة المرجوة من تلك المحاولات، فالاتهامات متبادلة، وتصنيف أبناء الوطن الواحد والدين الواحد واللغة الواحدة والأرض الواحدة والمصير الواحد إلى فئتين أو أكثر أصبح هو السائد، وكل ما ادعته أقلام الأطياف الأكثر تواجدا على الساحة؛ من أهمية اللجوء إلى لغة حوار حضارية، والبعد عن استعداء السلطة، وحفظ الحقوق العامة، والاحتراس من الاعتداء الشخصي، واحترام الطرف الآخر مهما اختلفت معه في الرأي، وصفاء المنهج، وعدم تدويل القضايا المحلية، والالتفاف على الوطنية المخلصة، وإلى ما لا آخر له من هذه المبادئ الرفيعة.. كلها تصدعت فجأة، وحل النزاع محل الوفاق، وشاع التشكيك في النوايا، ووجد من يستهدف شخصا ليسقطه، ومن يستهدف مؤسسة ليشوهها، ومن يدعي أنه يريد الحفاظ على الوحدة المحلية وهو يشطرها بمقالاته ومقولاته.

إن النوايا الحسنة تحتاج إلى أن تعضد بالحكمة، وتبرأ من التبعية، وتتجه إلى الاتجاه الذي يمثل المستقبل الآمن بإذن الله تعالى.

وإن التنمية والتطوير والإصلاح لا يعني أبدا الركض في دروب تغريبية، بمصطلحات محلية.

وإن البلاد التي استطاعت أن تقفز على سلم التقدم الحقيقي لا المزيف، هي البلاد التي تنطلق من عقيدتها ولغتها وأدبياتها، إلى آفاق الحضارات الأخرى، لتستفيد وتتغذى وتتلاقح، دون أن تفقد هويتها، وحين تتنازل عن هويتها فإنها ستفقد قاعدتها، وهنا لا تسأل عن الانهيارات الأخلاقية، والعقدية، والاقتصادية، وغيرها… التي قد تحدث عاجلا أم آجلا!!

إن النار التي اشتعلت في نادي الجوف الأدبي، اشتعلت في جوفي مباشرة، فأنا أحب بلادي، وكل فناء فيها هو فناء قلبي وروحي، وبصرف النظر عن ماهية المجرمين وحقيقتهم، التي أجهلها تماما، ولم أقرأ حتى الآن ما يكشف عن هويتهم، فإني أجد أن مثل هذه الأحداث تمثل نذير شؤم، وجرس إنذار، بأن الإيغال في تحدي المجتمع ومواضعاته السائدة، ومواجهته فيما لم يعتد عليه، أو في طرح مزيد من الأفكار الغريبة عليه، وتحقيقها بالقوة بين ظهرانيه، قد يعطي الفرصة لأمثال هؤلاء أن يندفعوا لمزيد من الجرائم ضد وطنهم، وهذا الكلام ليس لقضية نادي الجوف، ولكنه لكل الذين يضرمون النار في بلادهم دون أن يشعروا، إلى كل الذين يقذفون عليها كميات من البنزين والغاز وهم يتوهمون بأنهم يقذفون عليها الماء.

تقوم قيامة كثير من الكتاب ولا تقعد حين تصدر فتوى تخالف رأيهم، بحجة أنها تقدم المبررات للجرائم الإرهابية، ثم يتحولون إلى فقهاء وأصوليين، وأفقه وأفهم وأعلم من في الأرض، ويسيئون إلى العلم والعلماء، ويتدخلون فيما لا علم لهم به، ويناقشون القضايا الشائكة التي تحتاج إلى اجتماع أعلم العلماء، ويتجردون من كل مبادئهم التي يدندنون عليها، من احترام التخصص، واحترام الآخر، ثم يقولون: لماذا يتواصل فكر الإرهاب في بلادنا؟

إن لكل فعل رد فعل، والاستمرار في المواجهات ـ بين الطرفين ـ على الورق والفضاء والشبكة العالمية، سوف يفتح نوافذ النار من قبل من لا يعي بالعواقب، لينفس عن حرقة تتأجج في صدره كلما قرأ أو سمع، لأنه لا يملك فقه الإنكار، وربما تضيق دوائر وعيه عن دوائر المباح، أو المكروه، أو ما ينبغي عدم إنكاره لأي سبب، وعن سبل الإنكار الصحيحة!!

لقد أصبح وعي كثر من كتابنا خلف ورقته، وجدير بهم إذا كانوا يريدون الخير لهذا الوطن الآمن، وأن تتوقف التهيجات غير المسأولة، أن يوقفوا حربهم تماما.



اترك تعليقاً