جلس إلى جواري في رحلة جوية شاب مهذب، ناحل الجسد، عفوي الحديث، حاول أن يتداخل معي فور جلوسه، على غير عادة كثير ممن يتجاورون في الطائرة!! وبمجرد أن عرف بأني أعمل في الجامعة.. بدأ ينثر همومه أمامي، ويراقب استجابتي، لقد أمضى الشاب أربع سنوات من الدارسة في مجال اللغة العربية، وبقي ـ بعدها ـ مثلها دون عمل، وانتهى به الأمر إلى التحول إلى المجال العسكري الذي لم يكن متهيئا له، ولا يرغب فيه، ولكن.. ماذا يصنع؟ ست وعشرون سنة، ولا وظيفة ولا زواج ولا استقرار .. تفتح أبواب الشقاء على مصراعيه! 

عدت بذهني إلى أحد الأقسام العلمية في جامعتي، فتذكرت بأن معظم الداخلين فيه لم يكونوا راغبين فيه؛ كما صرحوا بذلك، ولذلك خرجت نتائجهم ممضة، مؤلمة، للأستاذ قبل الطالب. 

وجالست أستاذا في جامعة أخرى، فأخبرني بأن كليته أصبحت (ترانزيت)، وأن من لا يقبل في الأقسام والكليات الأخرى يستضيفونه فصلا أو أكثر، ليرحل إلى هناك، أو يفشل!! 

وقل مثل ذلك في عدد من التخصصات التي لم تعد قادرة على الجذب، بل أصبحت مهددة بالانقراض من أحد جانبين؛ إما أن تخرج من لا يمثلونها لا علما ولا مستوى ولا حتى اهتماما، وإما أن يتضاءل عدد الخريجين فيها إلى آحاد، لأنهم يهربون منها زرافات ووحدانا!! 

وحين تطرح الكلية أو القسم مقترحا بتغيير توجه الدراسة إلى ما يتطلبه الواقع العملي، والمستجدات المعاصرة، مع الحفاظ على أصل العلم والفن، فإن عليها أن تبدأ مشوار الألف ميل.. كما يقول الصينيون!! فالبيروقراطية الأكاديمية من أسوأ أنواع البيروقراطية المملة، فمن مجلس إلى مجلس، ومن لجنة إلى لجنة، ومن مختص إلى غير مختص يتدخل في شأن ليس من شأنه، ثم ترفع إلى الجامعة، ثم إلى الوزارة، ثم إلى الخدمة المدنية، ليبقى ما شاء الله له أن يبقى في هذه الردهات، ثم يعود بالموافقة أو بالرفض، بعد سنتين أو ثلاث، بعد أن تكون سوق العمل قد تغيرت، وتطلبت تغييرا جديدا!!

كيف نرجو التقدم ونحن بهذا البطء!! جامعات العالم تركض، ونحن نزحف!!

إني لم أصدق أن مئات من الشباب السعودي من أصحاب التخصصات الطبية والصيدلة لم يجدوا عملا، ومستشفياتنا تعج بالأجانب، وأن مئات الخريجين والخريجات الحاصلين على نسب عالية جدا، تكاد تكون كاملة، تفرط فيهم الجامعات، وتحرمهم من مواصلة الدراسة معيدين ومعيدات فيها، بينما لا يزال غير السعوديين يمثلون غالبية أعضاء هيئة التدريس في الجامعات السعودية، ولا أكاد أصدق بأن الدول الأقل موارد عربية وإسلامية، استطاعت أن تستقطب الراغبين في ترقية مراتبهم العلمية من بلادنا، وتحصل منهم على رسوم عالية جدا، بينما لا تزال جامعاتنا لا تقبل في كل تخصص سوى عدد قليل جدا من المتقدمين لها، حسب شروطها المعلنة!!

إن المشكلة ليست مشكلة مبان فخمة، والجامعات ليست مسؤولة عن التوظيف، وإنما هي مسؤولة عن التعليم، ولكننا لا نستطيع ـ أبدا ـ أن نفصل التعليم الجامعي عن التوظيف بأية حال من الأحوال.

أنا مقتنع بأن التوظف مسؤولية الخريج أولا، وأن عليه أن يسجل في القسم الذي يرغب، بقدر استطاعته الذهنية والأدائية، دون أن يخدع نفسه، كما أني مقتنع بأن على الجامعات أن توسع الأقسام التي يرغبها الطلاب في جميع المراحل بلا استثناء، وأن تضع شروطها، ولا يكون سبب رد الطالب وإلجائه إلى القسم الذي لا يريد هو عدم وجود مقعد له، بينما نفتح مقاعد وننفق عليها الأموال الطائلة .. وهي مجرد (ترانزيت).