الأم الأرملة .. ودورها التربوي

في البدء أحدد الأم الأرملة التي أخاطبها هنا، فهي تلك الأم الطموح، التي تعلق طرفها بالسماء، لا تلك ٱلتي تلعق رموشها ٱلأرض. تلك الأم التي تريد أولادها أن يكونوا من أصفياء ٱلله تعالى في أرضه، ومن أعلام عصرهم ٱلمؤثرين فيه، لا تلك ٱلتي ٱلأم ٱلقنوع ٱلتي لا ترجو سوى أدنى درجات ٱلنجاح لأولادها، ولا ترى ٱلسعادة لأولادها إلا مجرد استمتاع بالحياة وملذاتها؛ وقد قيل ((إن ٱلأبطال يصنعون ولا يولدون)). 

إلى تلك ٱلعملاقة ٱلتي تعرف أنها ـ كما قال نابليون ـ تهز سرير ابنها بيمينها؛ لتهز ٱلعالم بيسارها، فإنه من ٱلقواعد ٱلمقررة أن عظماء ٱلرجال يرثون عناصر عظمتهم من أمهاتهم. 

تلك التي لم تجعل ترملها عذرا لها عن إتمام التربية الإيمانية والحياتية المتكاملة، بل شقت طريقها بين صخور الحياة؛ حتى أنتجت شبابا وفتيات ناجين وناجحات أكثر من غيرهم. 

بل ربما كانت هي أحسن حالا من كثير من ٱلأمهات غير الأرامل اللاتي بتن يشتكين من عدم ٱلتفات ٱلآباء إلى تربية أولادهم؛ بسبب انشغالهم بطلب ٱلرزق، أو لغير ذلك من أسباب، لكون الأخرى أسيرة وجود غير فاعل، يشل حركتها، ولا يترك لها الإحساس الكامل بفاعلية دورها؛ لكونها الوحيدة في حياة أولادها.

إن ٱلأم ٱلناضجة هي ٱلتي تتقمص دور ٱلأب إلى جانب دور ٱلأم، بدلا من تضييع أولادها، أو ٱلدخول في متاهات الهم والحزن وانتظار ما لا يأتي.

ليس صحيحا اعتقاد بعض ٱلأمهات أن ٱلأم وحدها لا تستطيع أن تربي ولدا ناجحا، فالحقيقة تقول: إن عشرات ٱلأعلام تربوا على أيدي أمهاتهم؛ وهو ما تؤكده سيرهم التي تعج بالتضحية والنصب، ثم بالنجاح والتألق.

لا تنس الأم الأرملة أن الأم ـ عادة ـ ألصق بالولد من ٱلأب ولو كان موجودا؛ بحكم مكثها في ٱلمنزل لمدة أطول، ولقربها ٱلنفسي منه، وقربه هو منها أيضا. والعرب حين يرون من نجيب من ٱلأذكياء ما يعجبهم يقولون: لله درك، فيمدحون ٱلدر وهو ٱلحليب ٱلذي رضعه، لا ٱلأب ٱلذي أنفق عليه، و((ليس في ٱلعالم وِسَادَةٌ أنعم من حضن ٱلأم))؛ كما يقول شكسبير.

وإني أذكر ٱلأم الأرملة بأن عملها مخلوف دنيا وأخرى ـ إن شاء الله ـ فلها حق ٱلبر والصحبة أكثر من ٱلأب؛ كما في حديث ٱلبخاري ٱلمشهور عن رسولنا صلى ٱلله عليه وسلم: جاء رجل إلى رسول ٱلله صلى ٱلله عليه وسلم فقال: ((يا رسول ٱلله من أحق ٱلناس بحسن صحابتي قال أمك قال ثم من قال ثم أمك قال ثم من قال ثم أمك قال ثم من قال ثم أبوك)). لذلك على ٱلأم أن تستشعر قدر ٱلأجر ٱلذي سوف تحصل عليه وهي تقوم بتربية أولادها، والسعادة ٱلغامرة ٱلتي تكتنفها وهي ترى أثر ذلك في برهم لها، ونجاحهم في ٱلدنيا، وصلاحهم وفلاحهم في ٱلآخرة إن شاء ٱلله. والأم حين ترعى ٱلأولاد بعد وفاة ٱلأب فهي في أجور متعاقبة؛ مادامت ترعاهم وتنفق عليهم، عن أم سلمة قلت: ((يا رسول ٱلله هل لي من أجر في بني أبي سلمة أن أنفق عليهم ولست بتاركتهم هكذا وهكذا، إنما هم بني. قال: نعم لك أجر ما أنفقت عليهم)) رواه ٱلبخاري ومسلم وأحمد.

وأصدقك ٱلقول .. إن كثيرا من طاقات ٱلأمة قتلت في مهدها بأيدي أمهات جاهلات بحقيقة ٱلإبداع والعظمة ٱلمخبوءتين في نفوس أطفالهن، بل إن رؤية ٱلأم للحياة تتحكم كثيرا في مستقبل ٱلطفل بعد تقدير ٱلله تعالى، وقد قال نابليون: ((مستقبل ٱلولد هو من صنع أمه))، هذا ٱلإمام ٱلمبجل أبو يوسف، صاحب أبي حنيفة رضي ٱلله عنه، يحكي أمره مع أمه فيقول: ((توفي أبي إبراهيم بن حبيب وخلفني صغيراً في حجر أمي فأسلمتني إلى قصار [خياط] أخدمه، فكنت أدع ٱلقصار وأمر إلى حلقة أبي حنيفة فأجلس استمع، فكانت أمي تجيء خلفي إلى ٱلحلقة فتأخذ بيدي وتذهب بي إلى ٱلقصار، وكان أبو حنيفة يُعنى بي، لما يرى من حضوري وحرصي على ٱلتعلم، فلما كثر ذلك على أمي وطال هربي، قالت لأبي حنيفة: ما لهذا ٱلصبي فسادٌ غيرك، هذا صبي يتيم لا مال له، وإنما أطعمه من مغزلي، وآمل أن يكسب دانقاً يعود به على نفسه، قال شوقي:

وَإِذا ٱلنِساءُ نَشَأنَ في أُمِّيَّةً

 

رَضَعَ ٱلرِجالُ جَهالَةً وَخُمولا

فقال لها أبوحنيفة: هو ذا يتعلم أكل ٱلفالوذج بدهن ٱلفستق، فانصرفت عنه وقالت له: أنت شيخ قد خرفت وذهب عقلك. قال أبو يوسف: ثم لزمت أبا حنيفة وكان يتعاهدني بماله فما ترك لي خلة، فنفعني ٱلله بالعلم ورفعني حتى تقلدت ٱلقضاء، وكنت أجالس هارون ٱلرشيد وآكل معه على مائدته، فلما كان في بعض ٱلأيام قُدِّم إلى هارون ٱلرشيد فالوذج فقال لي هارون: يا يعقوب كل منه فليس يعمل لنا مثله كل يوم. فقلت: وما هذا يا أمير ٱلمؤمنين؟ فقال: هذا فالوذج بدهن ٱلفستق. فضحكت فقال: مم ضحكت؟ فقلت خيراً.. أبقى ٱلله أمير ٱلمؤمنين. قال: تخبرني, ألحّ عليّ. فأخبرته بالقصة من أولها إلى آخرها، فعجب من ذلك وقال: لعمري.. إن ٱلعلم ليرفع وينفع ديناً ودنيا، وترحم على أبي حنيفة وقال: كان ينظر بعين عقله ما لا يراه بعين رأسه .

دعينا نستمع إلى ٱلشاعر ٱلفذ عبد ٱلرحمن بن صالح ٱلعشماوي، ٱلذي توفي والده وهو وأخوه طفلان صغيران، ومعهما أربع أخوات، فنهضت أمه بواجب ٱلأبوة والأمومة في وقت واحد، وصنعت من هذا ٱلطفل شاعر أمة، لا أريد أن أتحدث عنه، وقد أرسل إلي بهذه ٱلوردة ٱلنفاحة؛ يقول فيها: (( أمي ٱلحبيبة تغمدها ٱلله برحمته، وجزاها عنا خير ٱلجزاء، فرشت لنا راحتيها ٱلحانيتين؛ فما شعرنا بوخز ٱلشوك ولا بقسوة ٱلحجارة في طريق ٱلحياة، وظلتنا بأهداب عينيها فما شكونا حرارة ٱلشمس في ٱلغيظ ولا شدة ٱلزمهرير في ٱلشتاء بدأت أنا وأخي وأخواتنا ٱلأربع رحلة ٱليتم بعد وفاة والدنا ٱلحبيب ٱلشيخ صالح ٱلعشماوي رحمه ٱلله تعالى فما شعرنا باليتم ولا عرفنا معناه ولم يثقل على قلوبنا ٱلغضة فراق ٱلأب ٱلغالي برغم شدة ٱلوقعة؛ لأن عطف أمي ٱلغالية وحنانها ورعايتها قد زحزحت عنا ثقل ذلك ٱلفراق، (سعدية بنت محمد علي سحاب ٱلغامدي)، اسم جدير بالاحترام في عالم ٱلتضحية والبذل ٱلسخي والعطاء ٱلصادق ٱلذي لا يعرف ٱلمن والأذى، ولا يقترب من ٱلتكلف ٱلمشين، وقفت صامدة على أرض ٱلتضحية تدفع عنا صعوبات ٱلحياة وتداري عن وجوهنا ما تثيره أعاصير ٱلفقر والحاجة، من سفيها ٱلكثيف، لقد رأيت في شخصية أمي رحمها ٱلله قوة ٱلإيمان بالله وشدة تعلق به وصدق ٱللجوء إليه؛ حتى أصبحت مثلا حيا أمام أعيننا للعمل ٱلدؤوب والجد والاجتهاد، وصارت شمعه مضيئة لا يخبو نورها ٱلصافي على مر ٱلليالي والأيام. أما أحاديثها ٱلتي تحمل لنا أغلى ٱلمشاعر وأصدق ٱلنصائح فقد ملأت قلوبنا نحن ٱلأولاد بعزيمة صادقة على ٱلمثابرة ٱلتي تحقق بإذن ٱلله ٱلأهداف، كانت تذكرنا بمكانة والدنا وعلمه وفقه وقوة عزيمته، وكانت لا تتوانى عن شحذ عزائمنا؛ لنكون أعضاء صالحين في ٱلأسرة والمجتمع والوطن والأمة بأكملها، وكانت لا تمل من تشجيعنا على ٱلعلم ومساعدتنا في طريق ٱلوصول إلى ٱلتفوق؛ مؤكدة بما لديها من معرفة لا بأس بها بأن طريق ٱلعلا تحتاج إلى ٱلجد والإخلاص.

وكانت تصور لي بريشة حبها ٱلكبير ملامح مستقبل مزهر ظلت ترسخه في ٱلذهن حتى أصبح جزأ من تفكيري أصبحت أرى من خلاله صورة مشرقة لحياة حرة كريمة بعيدة عن شطحات ٱلزلل وثغرات ٱلخلل لقد حولت ٱلحياة ٱلقاتمة بمتاعبها إلى حياة مشرقة بنتائج ٱلعمل ٱلمثمر فيها.

كان عطفها علينا كبيرا، ولكنه لم يتحول إلى ٱلمبالغة في ٱلتدليل، ولا إلى ٱلغلو في ٱلشفقة و ٱلخوف علينا من عوارض ٱلحياة.

كم قالت لي في أكثر من موقف: لست يتيما يا ولدي، وإنما ٱليتيم ٱلذي فقد ٱلراعي والموجه فضاع في دروب ٱلفساد)).

وترملت أم الأستاذ ٱلدكتور صالح ٱلعايد فكان يقول عن أمه: ((ألا من ذا له أم كأمي))؛ فماذا يميز أمه عن بقية ٱلأمهات؟ يجيب فيقول: ((مات ٱلأب وترك بنين وبنات صغارا (زغب ٱلحواصل لا ماء ولا شجر)، أكبرهم لم يبلغ ٱلحلم، وأصغرهم لم يبلغ ٱلفطام، في زمن فقر مدقع، أذاب ٱلشحم، وأكل ٱللحم، وبرى ٱلعظم، فمن كان لهؤلاء ٱلصبية ٱلصغار بعد ٱلله تعالى، حين رحل كاسبهم ومربيهم، لقد قيض ٱلله لهم أما رؤوما، كانت لهم نعم ٱلأم، ونعم ٱلأب، فكانت لهم سماء ظليلة، وأرضا ذليلة، ولقد صبرت على محن ٱلزمان ، وعلى نوائب ٱلدهر، أملا في أن ينبتهم ٱلله نباتا حسنا.

عصاميةً كانت على حين أنها

 

لها نسب فوق ٱلنقيصة والذم

 

وأميةً كانت ولكنَّ رأيها لدى

معضلات ٱلمر فوق ذوي ٱلعلم

 

أفنت عمرها صياما في ٱلنهار لحر يوم ٱلنشور، وقياما في ٱلليل لوحشة ٱلقبور، كانت تصوم في ٱلهواجر حتى نشفق عليها، فإذا رجوناها أن ترحم ضعفها، قالت وما يدريكم ربما لا أصوم غيره)).

حقا ـ يا صالح ـ إنها ٱلأم ٱلقدوة في عبادتها وفي معاملاتها، ٱلتي تربي بالفعل قبل ٱلقول، وبالتقوى وليس بالكذب والخيانة واستمراء ٱلمعاصي. ولذلك وصل ابنها إلى أرقى سلم ٱلعلم ٱلأكاديمي، ونال ٱلأستاذية في فنه ٱللغوي، وعرف ـ حفظه ٱلله ـ بالخلق ٱلفاضل ٱلكريم والسمت ٱلطيب. ولكنه لم ينس أمه وفضلها عليه؛ يقول: ((وإني لأعترف ٱليوم وكل يوم بأنني مدين بكل ما وصلت إليه، وما قد أصل إليه في ٱلمستقبل، مدين لله تعالى، ثم لأمي رحمها ٱلله)).

هذه امرأة أعرفها شخصياً من أقاربي، توفي زوجها وأحد ابنيها تجره بيدها ابن عامين، والآخر رضيع على يدها، فأوقفت حياتها كلها لهما، وَسَعَتْ في تربيتهما تربية جادة حازمة، مملوءة حبا وحنانا يعزان على ٱلوصف، وعلمتهم ٱلقرآن في مدارسه وحلقه، فحفظاه، واليوم يحفظ أبناؤهما وبناتهما ٱلقرآن والحديث، ويستعدان لنيل ٱلدكتوراه بإذن ٱلله. وهم من خيار أهل ٱلبلد إذا عُـد ٱلأخيار، هكذا نحسبهم والله حسيبهم، ولا نزكي على ٱلله أحدا.

وتلك قارئة لإحدى مقالاتي عن تربية الأم تقول: ((لقد صدقت والله في كل كلمة ذكرتها, صادفتصديقة لي الأسبوع الماضي كان قد مضى على فراقنا أكثر من عشر سنوات, احتضنتها، وأخذت كل منا في استباق الوقت تقص الخبر للأخرى، وما آلت إليه, هي الآن تحضر الماجستير بعد انقطاع طويل عن الدراسة، والجميل في القصة أنها ذكرت لي بأن والدتها هي من أصرت عليها بأن تكمل دراستها!! مع أن الأم غير متعلمة وأمية، لكنها اشترطت ـ حسب قولها ـ على جميع بناتها وأولادها أن يكملوا الدراسات العليا. والحمد لله كلهم من المتفوقين والناجحين في حياتهم. كم هي جميلة تلك المعاني)).

هذه بعض الصور التي لو وضعتها الأم الأرملة أمام عينيها، لكونت منها منهج حياة تربوية، تجعلها تحس بذاتها أكثر، وبكيانها المتميز، الذي ينتظر منه دور عظيم في مستقبل الأمة كله.



اترك تعليقاً