رباه .. فماذا نقول نحن ؟!

من يتفكر في حال الإنسان وهو يعبر بحر حياته ير العجب العجاب ، إن معظم بني آدم قد ألف أهوال بحرها ، وانكسرت في نفسه حدة الخوف من لججها ، وتناسى أن بين تضاعيف تلك الأمواج المتلألئة في ضوء الشمس ، الهادئة حينا ، المزمجرة حينا آخر ، فكَّا متحفزا لابتلاعه ، له لحظة رهيبة ينتظرها ليغيبه عن رحلته البحرية تلك ، وهي لحظة مجهولة الزمن ، ولكنها يقينية الحدوث ، ومع ذلك فقد أصبحت في عرفه بعيدة الحضور ، بسبب أشرعة الأمل الشفيفة التي نشرها فوق سفينته ، فهي تخدعه بجمالها الوضاء ، وطولها الفارع ، وهي في الواقع تحمل أسباب تلك الصرعة المتوقعة بين حين وآخر ، فكلما طال الشراع واتسع كلما كان فريسة أكثر إغراء للريح العاتية . وإنما يصرع المرء طول أمله ، واغتراره بشبابه وقوته ، وغفلته عن حقيقة الموت الذي يترصده . 

وما كان هذا المثل تهمة مجردة أتهم بها كثيرا من الناس لا أبرئ نفسي أن أكون واحدا منهم ، فما يحدث اليوم من تهاون بالواجبات ، وتسويف في التوبة ، وفرح وأي فرح بخلابات الدنيا وزينتها، وانغماس مشين في ما يسخط الله من الذنوب والمعاصي دون تراجع عنها أو حتى استنكار قلبي ، كل ذلك دليل وبرهان على تردي الحس الإيماني في النفس ، وغياب استحضار تلك اللحظة الرهيبة التي ننتظرها جميعا . 

ومن أقوى أسباب نشوء هذه الحالة المتردية بعد الإحساس بالخوف من الله ، فلقد غابت عن أعيننا صور كانت ماثلة أمام أعين سلفنا الصالح ، فأمنا وخافوا ، ] يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) [ [سورة الحـج 22/2] ، وكلما ازداد المرء علما بالله كلما ازداد حبا له وازداد خوفا منه خشية منه : ] وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ (165)} [سورة البقرة 2/165][ ] إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [ [سورة فاطر 35/28] فلا عجب أن نسمع الرسولe يقول : (( لو تعلمون ما اعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ، فغطى أصحاب رسول الله e وجوههم ولهم خنين )) يبكون رضي الله عنهم . 

لقد لازم الخوف من الله قلوبهم فكانوا يستحضرون عظمة ربهم في كل أوقات حياتهم ، فإذا انفردوا كانوا كذاك الرجل المبشر بظل الله يوم لا ظل إلا ظله (( رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ))، وإذا حضرهم الخلائق لم تغب عنهم صورة المحشر ، فهذا عبد الله بن حنظلة وهو على فراشه عليل ، قد نسي علته ، وغابت عن حسه آلامه حين تلا أحد عواده قوله تعالى : ] لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [سورة الأعراف 7/41][ ، فبكى حتى ظنوا أن نفسه ستخرج ، وقال : صاروا بين أطباق النار ، ثم قام على رجليه ، فقال قائل : يا أبا عبد الرحمن اقعد ، قال : منعني ذكر جهنم القعود ، ولا أدري لعلي أحدهم .

مستوفدين على رحل كأنهم

ركب يريدون أن يمضوا وينتقلوا

 

عفت جوارحهم عن كل فاحشة

فالصدق مذهبهم والخوف والوجل

 

وللخائف بشرى من ألذ البشارات ، لم تنهض قائما في جوف الليل إلا أطيافها، ولم تعطش جوفا في هجير النهار إلا الرغبة في كوثرها ، ولم يصبر المبتلى على بلواه إلا أمل الحصول على نعيمها؛ يقول المولى عز وجل : ] وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [ [سورة الرحمن 55/46] ، ويقول سبحانه : ] وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى [ [سورة النازعات 79/40] .

فإن هذا المؤمن تحسب ليوم سوف يقوم فيه بين يدي الله الواحد القهار ، ليس بينه وبينه ترجمان ، وحيدا فريدا ، تعرض فيه جميع أعماله على علام الغيوب ، من كتاب ] لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا [ [سورة الكهف 18/49] ، ويقال له : ] اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [[سورة الإسراء 17/14] ، فكلما توقدت شهوته لأي عرض من أعراض الرغبات المحرمة ذكر الله فكان من ] الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون [ ، وكلما همت نفسه بمعصية ذكر ذلك الموقف فأبى أن يدنسها ، ] قد أفلح من زكاها ، وقد خاب من دساها [. فإن من عادة الكريم المنان ألا يجمع على عبد خافه في الدنيا خوفا في الآخرة ، يقول الله تعالى في الحديث القدسي : (( وعزتي وجلالي لا أجمع لعبدي أمنين ولا خوفين ، إن هو أمنني في الدنيا أخفته يوم أجمع عبادي ، وإن هو خافني في الدنيا أمنته يوم أجمع عبادي )) .

بل إن الله تبارك وتعالى ليؤمن عبد الذي يخشاه في الدنيا من أهل الدنيا ، فلا يخشاهم بل هم الذين يخشونه : وتلك تجربة لخصها عامر بن قيس بقوله : (( من خاف الله أخاف الله منه كل شئ ، ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شئ )) . وجزم بها عمر بن عبد العزيز t حين دعا ربه فقال : (( اللهم إن كنت تعلم أني أخاف شيئا دون يوم القيامة فلا تؤمن خوفي )).

ومن فوائد الخوف من الله : أنه حصن من المهالك ، وحماية من المنزلقات ، ودليل إلى الخيرات ، يقول الفضيل بن عياض : (( من خاف الله دله الخوف على كل خير )).

ويقول سفيان بن عيينة ـ رحمه الله ـ : (( خلق الله النار رحمة يخوف بها عباده لينتهوا )) . أ.هـ ، أقول : ذلك لأن النفس البشرية مجبولة على أنها لا تستقيم إلا بالثواب والعقاب ، أرأيت كيف أن الوالد الحنون :

قسا ليزدجروا ، ومن يك حازما      فليقس أحيانا على من يرحم

فالخائفون المشفقون هم أهل الصلاح والتقى والورع والزهد ، فإن من لامس الخوف شغاف قلبه وسرى في عروقه أورثه ذلك عملا صالحا وتقوى ، أولئك الذين سئل عنهم ابن عباس tا فقال : قلوبهم بالخوف فرحة ، وأعينهم باكية ، يقولون كيف نفرح والموت من ورائنا ، والقبر أمامنا، والقيامة موعدنا ، وعلى جهنم طرقنا ، وبين يدي الله موقفنا.

والخوف الحقيقي خوف السر والخلوة حيث لا يراك مخلوق ولا ترائي عيوانا ولا آذانا ، هذا أنس بن مالك يقول : خرج عمر بن الخطاب t يوما ، وخرجت معه حتى دخل حائطا ، أي مزرعة ، فسمعته يقول وبيني وبينه جدار وهو في جوف الحائط : (( عمر بن الخطاب أمير المؤمنين بخ بخ ، والله لتتقين الله يا بن الخطاب أو ليعذبنك )) .

وبكى معاذ t بكاء شديدا فقيل له ما يبكيك ، فقال : لأن الله عز وجل قبض قبضتين ، فجعل واحدة في الجنة والأخرى في النار ، فأنا لا أدري من أي الفريقين أكون .

رباه رباه فماذا نقول نحن ، يا رب رحماك رحماك .

جعلنا الله جميعا ووالدينا وأحبابنا من الآمنين حين الخوف والفزع ] يوم يفر المرء من اخيه ، وأمه وأبيه ، وصاحبته وبنيه [ ، وممن ينادون في ذلك اليوم العظيم : ] ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون[.



اترك تعليقاً