حدد المحاضر ورقته في إطار ( الشعر ) من المشهد الثقافي ، وهو تحديد ضروري ؛ حتى لا تنبعج به قربة الثقافة المتخمة ، بما أفرغ فيها من شتى العلوم والفنون .
غادر الباحث وهو يعدد أسماء الكتب التي عنيت بتراجم الشعراء أهم كتاب قدم خدمة جليلة للأدب في هذه المنطقة ، وجعل لها ذكرا ودراسات في عدد من الجامعات الخليجية ، وهو شعراء هجر للدكتور عبد الفتاح الحلو ، ومن أبرز تلك الدراسات الحركة الشعرية في الخليج للدكتور نورية الرومي .
مصطلح الثقافة ، مصطلح إشكالي ، لم يتفق عليه أكثر المختصين ، ولكنه مصطلح مظلوم أيضا ، حينما استولت عليه فئة معينة من المثقفين في جانب محدود ، فأصبحوا هم المثقفين وحدهم ، والثقافة هي ما يتطارحون ، والآخرون متطفلون ـ في نظرهم ـ على الثقافة ، حتى وإن صبوا ماء عيونهم ودماء قلوبهم في بحوث اعترفت بها لهم الأكاديميات العالمية . وتلك إشكالية خطيرة جسدت لنا حقيقة مرة ، هي بروز رأس الدكتاتورية البغيضة في أبشع أشكالها ، بين أكثر المثقفين صياحا ، وبحثا عن إتاحة الفرصة أمام الآخر ليتحدث ، ويقول رأيه بصراحة .
فبمجرد الحصول على مركز ثقافي أيا كان ، وأكثره في الصحافة ، يتحول هذا المركز إلى أخطبوط جشع ، يسيطر عليه جو تسلطي تعسفي ، تنفتح فيه أشداق سلات المهملات لكل ما لا يتفق مع الاتجاه الأدبي والفكري لصاحب المركز .
وهنا تنهار كل المباديء المعلنة من قبل هؤلاء لنواجه بحقيقة مرة ، تقول : إن البحث عن الحرية لم يكن للآخر أيا كان ، وإنما حين يكون الآخر هو أنا فقط .
ولذلك فإن المحاضر حينما عدد الكتب التي حاولت الكشف عن التجارب الشعرية لم يرصد سوى كتب الدكتور سعد البازعي ، والأستاذ محمد العباس التي تحدثت عن الشعر المنبثق من أطر الحداثة الأوربية وإن كان شعرا عربي اللسان ، وحين عدد الأسماء التي تناولت الشعر في الملاحق والمجلات لم يتذكر سوى الأسماء التي تعاملت مع شعر الحداثة وحده ، متناسيا مثل الأستاذ مبارك أبو بشيت ، ومحمد حسن بريغش .
في حين انتقد هو هذه السياسة المجحفة في حق الآخر في الدراسات التي لا تضيق إلا عن الأبعد فكريا ، وهو الأفضل في رأي المحاضر وحده بالطبع ، وهذا الشاعر المحافظ صاحب اللقب الشرعي الشيخ عبد الرحمن العبيد يفتح النادي الذي يرأسه للحداثيين ليعرضوا ما عندهم على ساحة الحوار ، فيشارك أحمد الملا وحسن السبع ، وغيرهما ويطرحا ما لديهما دون حدود أو قيود ، وإني لأفخر بأني قدمت رسالتي العلمية حول شعر الأحساء وقد نشرت كثيرا منها في جريدة اليوم التي يعمل فيها محاضرنا ، لم أهمش شعراء الحداثة في الأحساء الذين كتبوا قبل 1400هـ وهي مساحة البحث الزمنية ، فتحدثت عن الشاعر والناقد الأستاذ محمد العلي ، والشاعر والصحفي الأستاذ أحمد الملا ، ودرست التجارب التي وضعت بين يدي آنذاك ، وزرتهما وأخذت مخطوطهما ، فهما لم يطبعا شيئا في إصدارات آنذاك .
وعلى أساس تهميش الآخر الذي يمثل أدب الأصالة المحافظ ، وليس الأدب التقليدي الضعيف الذي لا يعترف به أحد ، سارت هذه المحاضرة . ولذلك فإن العنوان الذي وضعه الأستاذ حسن إما أن يكون ناقصا بحيث يكون بعد التعديل : ( المشهد الثقافي للاتجاه الحداثي في المنطقة الشرقية ) ، وإما أن يكون فيه جناية أدبية واضحة على (الآخر) الموجود بفاعلية أكبر ، والذي يأخذ المساحة الحقيقية بين جمهور الأدب والثقافة ، وإن أبى الحداثيون .
صور المحاضر الغيورون على الدين واللغة من زلات الحداثيين التي لا تحتاج ـ بعد هزيمتها كما أعلن ذلك كبار نقادها الغذامي والسريحي ـ إلى إثبات ، صور تلك الغيرة أنها مجرد تسلل إلى الملعب في الوقت الضائع ، وحاولة للاتهام ، وهو يعلم أنها حقيقة لا نؤاخذه شخصيا بها ، ولكن من ثبتت إدانته فمن حق المجتمع أن يدافع عن معتقده ولغته، ويحاسبه في الصحف والكتب ، كما نشر هو زلاته تلك في الكتب والصحف .
وهنا أسأل المحاضر ألا ترى أن تجربة الحداثة تمر بمأزق شديد ، وأنها لفظت أنفاسها الأخيرة ، كما توشك مجلة النص الجديد أن تلفظ أنفاسها الأخيرة كما ذكرت أنت ؟ وأن التمسك بها في مجتمع متين الصلات بموروثه ، بل مرتبط به ارتباط الروح بالجسد هي محاولة مستحيلة ، ولا أزال أذكر شكوى الدكتور سعيد السريحي في إذاعة البحرين من عدم استجابة المجتمع للحداثة ، فضلا عن أن ينتقل إلى ما يسمى ما بعد الحداثة .
إن طرحك الواقعي لحداثة الثمانينات ، وتحليلك الرائع لسبب التفات النقاد لها ، والقبول الكبير لأطروحاتها في صفوف بعض المثقفين بأنه الانبهار الذي يجعل الشيء العادي ضخما ، وقادرا على السيطرة على المفاهيم ؛ بحيث يقتنع به كل من يفتح عيونه عليه لأول وهلة . وكان هذا كافيا ليجعلك تعترف بأنه لم يكن هناك ما يستحق الانبهار لولا الجدة التي أوقعت كثيرا من المتطلعين للتجديد أيا كان في شباك الحداثة ، والحطيئة يقول : لكل جديد لذة غير أنني وجدت جديد الموت لذيذ
وإني لأجد جديد الحداثة مريرا في فمي ؛ لما سببه من اعتداء صريح أو غامض على عقيدتي ولغتي .
وأقف ـ بعد ذلك ـ مع محاولتك التسوية بين معارضة التقليديين للتجديد في مطالع مرحلة الإحياء والمدراس النقدية التي ذكرت : أبولو والمهجر والديوان ، وبين معارضة المحافظين الذين يعلنون أنهم يدينون بقيم المعاصرة دون الانهيار أمام تيارات الأدب العالمي المشبوه ، وهي محاولة فاشلة ذكرها الحداثيون منذ محاولة الحداثة التسلل إلى مجتمعنا عبر المجلات والصحف ، واستشهدوا لذلك ما هو أبعد من ذلك وهو المعارضة التي واجهها صاحب مذهب البديع الشاعر المجدد أبو تمام ، وأخذوا يرددون الحكاية التي تقول بأنه حين سئل : لماذا تقول ما لا يفهم ، أجاب بقوله : ولماذا لا تفهمون ما يقال ، وعلى هذا طلبوا منا أن نصنع للهذيان معنى ، وإلا فنحن غير مثقفين .
أيها الأستاذ الأديب ، والكاتب المبدع ، والشاعر المجيد .. مع احترامي الشديد لك أقول : إن المحافظين المعاصرين أمثال الدكتور حسن الهويمل ، والدكتور عوض القرني، والدكتور سعيد الغامدي ، والدكتور أحمد الخاني ، وغيرهم ، درسوا الحداثة بأصولها وفروعها ، وتابعوا كل خطواتها في بلادنا ، ثم تقدموا لنقدها ، فهم ليسوا كأولئك الذين عارضوا الجديد لأنه جديد . وهنا يكمن الفرق بين المحافظ والمقلد ، والذين اشتبكا في ورقتك أكثر من مرة بقصد التوحيد بينهما في المصطلح والمؤدى ، وهما مفترقان بلا شك على الأقل في مفهوم ( الآخر ) الذي يجب أن نحترم رأيه على أقل الحالات .
وأما عن توقف الشاعر ، فتلك قضية عليها أمثلة كثيرة جدا ، فالشاعر المجيد قد يتوقف ، وليس الشاعر المبدع الرائع حسين سرحان عنا ببعيد ، وفي الشرقية ، توقف أبو سعد أكثر من عقدين من حياته عن الشعر ثم عاوده بقوة إلى أن غربت شمس حياته ، وتوقف الشاعر المجيد أحمد الراشد المبارك إلا من قصيدة أو اثنتين ، وتوقف الشاعر الحداثي الأستاذ محمد العلي عن الشعر المقفى عقودا متطاولة ، وحين توفي أحد الشخصيات المهمة في حياته عاد جذعا إلى شعر الشيخ محمد الهجري لقبه القديم ، وليس الأستاذ محمد العلي . وعدد من الشعراء العالميين سكتوا وهي ظاهرة جديرة بالدراسة لا بالنفي واتهام من وقعوا في براثنها بأنهم ليسوا شعراء حقيقيين على حد تعبير محاضرنا .
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.