أحاسيس زائرة

لم تكن في مخيلتي صورة متكاملة لما سأشاهده في القسم النسائي في مركز جمعية البر الخيرية بالمزروعية ، حين لبيت دعوته الكريمة .

لا أخفي ملتقط حديثي هذا أنني كنت مترددة كثيرا ، إلى درجة ترجح لدي فيها عدم الذهاب، ربما للغموض التي غلف خيالي .. أو للحياء من شخصيات جديدة لم أعقد معها علاقات سابقة .. أو .. لا أدري حقا ما السبب الحقيقي .. !

ولكن شاء الله تعالى أن أدخل هذه التجربة الجديدة في حياتي .. الجديدة ؛ لأنني كنت أحمل شيئا من الهم الذي يحمله هؤلاء الأخوات بعيدا عن ممارسته بالشكل الذي يمارسنه .. كنت أكتفي بأن أدعو إلى الإسهام في وجوه الخير التي يتبناها المركز ، وأن أذب عنه ما استطعت كل الشبه التي قد يثيرها ضعاف النفوس ، أو المتعجلون ، وأن أقرأ المطويات التي تصلني إلى المنزل .. ولكني شعرت شعورا جديدا حين وجدت نفسي في بحبوحة من الخضرة والصفاء ، غمرتني أحاسيس ظلت تنمو في خاطري كغصن من الريحان يرقص على مجرى ماء ، كل كلمة أسمعها من الأخوات الكريمات نهر عذب الملمس والمشرب ، وكل صورة تحدثت على الحائط بحر زاخر بالياقوت والزبرجد ، وكل لحظة تمر بي بينهم عيون دافئة تضغط على أعصابي لتدلكها وتعالجها، حتى أصبح كل ذلك يشكل طوفانا من المشاعر ، كنت أداريه بابتسامات الرضا ، وابتهاج الخاطر.. خوفا من لحظة انفجار لا أدري مداها .. وأنا الضيفة الغريبة ..

تساؤلات حيرتني .. ما الذي جعل هؤلاء الأخوات يندفعن بكل حماسة للعمل هنا، ولماذا يتحدثن عن المركز وكأنه ملك لهن ، متجر يملكنه ويردن إقناع زبائنه بجدوى التعامل معه ..

هذه الفتاة الموهوبة .. أسرتني بحديثها ، بملكتها ، بحسن معشرها ، ودماثة خلقها كم تنبض كلماتها بمزيج من الحب والشفقة لكل محتاج وبائسة .

آه .. ما الذي داهمني وأنا أنظر فتاة أخرى كانت واقفة خلف المنضدة ، تستقبل اليتيمات والمسكينات وتساعدهن في انتقاء لوازمهن ، ليتني مكانها .. عفوا يا إلهي .. ليتني إلى جوارها ، ولكن هل سأستطيع أن أبتسم مثل ابتسامتها الطاهرة طهر المطر في وجوه هؤلاء البائسات !! إنهن يحصدن من حسن معاملتها وبشاشتها في وجوههن أضعاف ما يرجعن به من ملبس ومأكل .. كيف وقد أشقاهن العيش الخشن ، وأذلتهن الحاجة إلى الناس ، ولم يجدن من يرسل هذه المشاعر إلى قلوبهن حتى من أهلهن !!

حقا كنت في ذهول وأنا أرى موائد البر والإحسان تفرش هنا وهناك ، والقسم النسائي كخلية نحل يتألق بالعروض والأزياء وما يشبه المحلات التجارية ، يدخله المحتاجات فينتقين ما يردن من الأشكال بمقاساتهن الخاصة ، بعد أن كن يلبسن بواقي  ما يلقيه الأغنياء عليهن بعد الاستعمال ، سواء أكان على قدودهن أم لا ..

أواه .. كم أنا محرومة من الخير وأنا أقف في الصفوف الأخيرة من هذا المشروع، وكنت أظن أنني على الأقل خلف صفوف رجاله مباشرة ، حين تستضيفني حماسة مؤقتة لمشروع يطرح زمنا محددا وينتهي  ..

الآن علمت أنني لم أقدم شيئا لفقراء بلدي ، وأنَّ هناك من بذل أغلى ما يملك وهو حياته من أجلهم .. فهنيئا لهم ولهن دعوات المحتاجين ، وأجور ابتسامات البائسين، وفرحة الأيتام والمعدمين .

ألا ليت كل محسنة تدخل هذا العالم البديع ولو مرة واحدة ، إذن لشعرت أنها انتقلت من عالم المادة إلى عالم الإحساس ، من عالم الجسد إلى عالم الروح ، وردَّدَتْ معي: نعم إننا نعيش الدنيا خارج هذا السور أكثر مما ينبغي ؛ طلبا لمباهج لم ندركها ، فإذا دخلنا هنا وجدنا أنفسنا في وسط هذه المباهج .. ولكن دون بهارج ..

إنها السعادة المفقودة في حياتنا التي نالها هؤلاء الأخوات لأنهن بذلن أوقاتهن لإضفاء معنى الإنسانية على قلوب هؤلاء المحرومات ، ولأنهن يعشن معنى غاب وراء جدر المادية وهو معنى الاحتساب .. وفقدنا ذلك نحن ؛ لأننا نعيش لذواتنا ، ولا نصنع شيئا إلا بحسابه الدنيوي الزهيد ..

هل هذا الشعور هو الذي تفجر في مقلتي دمعا وانكسارا غزيرين .. حين تحدثت عن زيارتي لأول من سألني عنها .. وهو كاتب هذه السطور ؟؟!!



اترك تعليقاً